10 - (ولقد آتينا داود منا فضلا) نبوة وكتابا وقلنا (يا جبال أوبي) رجعي (معه) بالتسبيح (والطير) بالنصب عطفا على محل الجبال أي ودعوناها تسبح معه (وألنا له الحديد) فكان في يده كالعجين
يقول تعالى ذكره: ولقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للجبال " أوبي معه ": سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب: الرجوع، ومبيت الرجل في منزله وأهله، ومنه قول الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية يوم سير إلى الأعداء تأويب
أي رجوع. وقد كان بعضهم يقرؤه ( أوبي معه) من آب يئوب، بمعنى: تصرفي معه، وتلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثني محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، وحدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا الحسن بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس " أوبي معه " يقول: سبحي معه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " يا جبال أوبي معه " يقول: سبحي معه.
حدثنا أبو عبد الرحمن العلائي، قال: ثنا مسعر، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن " يا جبال أوبي معه " يقول: سبحي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة " يا جبال أوبي معه " قال: سبحي بلسان الحبشة.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن منصور، عن مجاهد، في قوله " يا جبال أوبي معه " قال: سبحي معه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " يا جبال أوبي معه " قال: سبحي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " يا جبال أوبي معه ": أي سبحي معه إذا سبح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " يا جبال أوبي معه " قال: سبحي معه، قال: والطير أيضاً.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " يا جبال أوبي معه " قال: سبحي.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ، قوله " يا جبال أوبي معه " سبحي معه.
وقوله " والطير " وفي نصب الطير وجهان: أحدهما على ما قاله ابن زيد من أن الطير نوديت كما نوديت الجبال، فتكون منصوبة من أجل أنها معطوفة على مرفوع، بما لا يحسن إعادة رافعه عليه، فيكون كالمصدر عن جهته. والآخر: فعل ضمير متروك استغني بدلالة الكلام عليه، فيكون معنى الكلام: فقلنا: يا جبال أوبي معه، وسخرنا له الطير، وإن رفع رداً على ما في قوله: سبحي من ذكر الجبال كان جائزاً، وقد يجوز رفع الطير وهو معطوف على الجبال، وإن لم يحسن نداؤها بالذي نوديت به الجبال، فيكون ذلك كما قال الشاعر.
إلا يا عمرو والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
وقوله " وألنا له الحديد " ذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار، ولا ضرب بحديد.
ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وألنا له الحديد " سخر الله له الحديد بغير نار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، في قوله " وألنا له الحديد " كان يسويها بيده، ولا يدخلها ناراً، ولا يضربها بحديدة.
" ولقد آتينا داود منا فضلا " بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بعا ، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات ، وأحللنا بمن خالفهم العقاب . "آتينا " إعطينا . " فضلا " أي أمرا فضلناه به على غيره . واختلف في هذا الفضل على تعة أقوال : الأول : النبوة . الثاني : الزبور : الثالث : العلم ،قال الله تعالى : " ولقد آتينا داود وسليمان علما " [النمل : 15 ] .الرابع: القوة ،قال الله تعالى : "واذكر عبدنا داود ذا الأيد " [ص : 17 ] . الخامس : تسخير الجبال والناس ، قال الله تعالى : " يا جبال أوبي معه " .السادسة : التوبة ،قال الله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " [ص : 26 ] الآية .الثامنة : إلانة الحديد ، قال تعالى : "وألنا له الحديد " [سبأ: 10 ] . التاسع : حسن الصوت ، وكان داود علي السلام ذا صوت حسن ووده حسن . وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضيل منه ، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " فاطر : 1 ]على ما يأتي إن شاء الله تعالى . "وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " . قال العلماء : المزمار والمزمور الصوت الحسن ،وبه سميت آلة الزمر مزمارا . وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع ، وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله .
قوله تعالى: " يا جبال أوبي معه " أي وقلنا يا رحبال أوبي معه ، أي سبحي معه ، لأن ه قال تبارك وتعالى : "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " [ص: 18 ] .قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة ، ومعنى تسبيح الجبال : هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام . وقيل : المعنى سيري معه حيث شاء ، من التأويل الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل .قال ابن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما : أوبي معه أي رجعي معه ، من آب يئووب إذا رجع ، أوبا وأوية وإيابا . وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف داود بالنهار ، فكان إذا قرأ الزبون صوتت الجبال معه ،واصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل . وقال وهبة بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك ، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه . وصدى الجبال الذي يسمعه لناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة ، فأيد بمساعدة الجبال ولاطير لئلا يجد فترة ، فإذا دخلت الفترة اهتاج ، أي ثار وتحرك ،وقوي بمساعدة الجبال والطير . وكان قد أعطى من الصوت مايتزاحم الوحش من الجبال على حسن صوته ، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته . والطير بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك ،عطلفا على لفظ الجبال ، أو على المضمر في أو بي وحسنة الفصل بمنع . الباقون بالنصب عطفا على موضع يا جبال أي نادينا الجبال والطير ، قاله سيبويه . وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير . وقال الكسائي هو معطوف ، أي وآتيناه الطير ، حملا على ولقد آتينا داود منا فضلا . النحاس يجوز أن يكون مفعولا معه كما تقول : استوى الماء والخشبة . وسمعت الزجاج يجيز : قمت وزيدا ، فالمعنى أوبي معه ومع الطير . " وألنا له الحديد " قال ابن عباس : صار عنده كالشمع . وقال الحسن : كالعجين ، فكان يعمله من غير نار . وقال السدي : كان الحديد في يده كالطين المبلول والعدين والشمع ، يصلغه كيف شاء ، من غير إدخال نار ولاضرب بمطرقة . وقال مقاتل : وكان يفرغ من الدرع في تعض اليوم أو بعض الليل ، ثمنها ألف درهم .وقيل : أعطي قوة يثني بها الحديد ، وسبب ذلك أن داود عليه السلام ،لما ملك بين إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا ،وداود متنكر خرط يسأل عن نفيه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء ، فقال داو د لذلك الشخص الذي تمثل له : ما قولك في هذا الملك داود ؟ فقال له الملك نعم العبد لولا خلة فيه قال داود : وما هي ؟ قال :يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله .فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء ، فألان له الحديد فصنع الدروع ، فكان يصنع لدرع فيما بين بين يومه وليلته يساوي ألف درهم ، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله ، ويتصدق على الفقراء والمساكين ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين ، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكان قبل ذلك صفائح ويقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف . والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب . ودرع المرأة مذكر .
مسألة :في هذه الآية دليد على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم ، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ، إذا يحصل لهم التوضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان . و"في الصحيح عن النبي صلىالله عليه وسلم قال : إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " وقد مضى هذا في الأنبياء مجودا والحمد لله .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين, وجمع له بين النبوة والملك المتمكن, والجنود ذوي العدد والعدد, وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم, الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات, الصم الشامخات, وتقف له الطيور السارحات, والغاديات, والرائحات, وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل, فوقف فاستمع لقراءته, ثم قال صلى الله عليه وسلم "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه, ومعنى قوله تعالى: "أوبي" أي سبحي, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد, وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة, وفي هذا نظر, فإن التأويب في اللغة هو الترجيع, فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه ـ الجمل ـ في باب النداء منه " يا جبال أوبي معه " أي سيري معه بالنهار كله, والتأويب سير النهار كله, والإسآد سير الليل كله, وهذا لفظه, وهو غريب جداً لم أره لغيره, وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة, لكنه بعيد في معنى الاية ههنا, والصواب أن المعنى في قوله تعالى: "أوبي معه" أي رجعي مسبحة معه كما تقدم, والله أعلم.
وقوله تعالى: "وألنا له الحديد" قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يدخله ناراً ولا يضربه بمطرقة, بل كان يفتله بيده مثل الخيوط, ولهذا قال تعالى: "أن اعمل سابغات" وهي الدروع قال قتادة , وهو أول من عملها من الخلق, وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلاف درهم, ألفين له, ولأهله, وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري "وقدر في السرد" هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى: "وقدر في السرد" لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة, ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر, وقال الحكم بن عيينة : لا تغلظه فيقصم, ولا تدقه فيقلق, وهكذا روي عن قتادة وغير واحد, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السرد حلق الحديد. وقال بعضهم: يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق, واستشهد بقول الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر , وفيه كلام, عن أبي إلياس عن وهب بن منبه ما مضمونه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً, فيسأل الركبان عنه وعن سيرته, فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب : حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل, فلقيه داود عليه الصلاة والسلام فسأله كما كان يسأل غيره, فقال: هو خير الناس لنفسه ولأمته, إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملاً. قال: ما هي قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين, يعني بيت المال, فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عز وجل في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله, فألان الله عز وجل له الحديد, وعلمه صنعة الدروع, فعمل الدروع, وهو أول من عملها, فقال الله تعالى: "أن اعمل سابغات وقدر في السرد" يعني مسامير الحلق, قال: وكان يعمل الدرع, فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها, واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله, وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها, وقال: إن الله أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت, إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر, وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج, إلا على أصناف صوته عليه السلام, وكان شديد الاجتهاد, وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير,وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه. وقوله تعالى: "واعملوا صالحاً" أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم "إني بما تعملون بصير" أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم, لا يخفى علي من ذلك شيء.
ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود "فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب" وقال في سليمان "وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب" فقال: 10- "ولقد آتينا داود منا فضلاً" أي آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء. واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل النبوة، وقيل الزبور، وقيل العلم، وقيل القوة كما في قوله: "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" وقيل تسخير الجبال كما في قوله: "يا جبال أوبي معه" وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل كما في قوله: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله: "وألنا له الحديد" وقيل حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله: "يا جبال" إلى آخر الآية، وجملة "يا جبال أوبي معه" مقدرة بالقول: أي قلنا يا جبال: والتأويب: التسبيح كما في قوله: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن". قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة. وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: إن الله سجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود، وقيل معنى أوبي: سيري معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
قرأ الجمهور "أوبي" بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو الترجيع أو التسبيح أو السير أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق "أوبي" بضم الهمزة أمراً من آب يؤوب إذا رجع: أي ارجعي معه. قرأ الجمهور "والطير" بالنصب عطفاً على "فضلاً" على معنى: وسخرنا له الطير، لأنه إيتاءه إياها تسخيرها له، أو عطفاً على محل "يا جبال" لأنه منصوب تقديراً، إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولاً معه كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي إنه معطوف على فضلاً لكن على تقدير مضاف محذوف أي آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفاً علىلفظ الجبال، أو على المضمر في أوبي لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه "وألنا له الحديد" معطوف على آتيناه: أي جعلناه ليناً ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.
قوله عز وجل: 10 - "ولقد آتينا داود منا فضلاً"، يعني النوة والكتاب، وقيل: الملك. وقيل: جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به، "يا جبال"، أي: وقلنا يا جبال ، "أوبي"، أي: سبحي، "معه"، إذا سبح، وقيل: هو تفعيل من الإياب وهو الرجوع، أي: رجعي معه وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه قال أوبي النهار كله بالتسبيح معه. وقال وهب: نوحي معه.
"والطير"، عطف على موضع الجبال، لأن كل منادى في موضع النصب.وقيل: معناه: وسخرنا وأمرنا الطير أن تسبح معه، وقرأ يعقوب: والطير بالرفع رداً على الجبال، أي: أوبي أنت والطير. وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك.
وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح.
وقيل: كان داود عليه السلام إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له.
"وألنا له الحديد"، حتى/ كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة.
وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار: أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه وسأله عن داود ويقول له: ما تقول في داود واليكم هذا أي رجل هو؟ فيثنون عليه، ويقولون خيراً، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله، فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه، فراع داود ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، قال فتنبه لذلك وسأل الله أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال، فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله تعالى له الحديد وعلمه صنعة الدرع، وإنه أول من اتخذها.
ويقال: إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين.
ويقال إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده".
10ـ " ولقد آتينا داود منا فضلاً " أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد ، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن . " يا جبال أوبي معه " رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب ، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، أو سيري معه حيث سار . وقرئ (( أوبي )) من الأوب أي ارجعى في التسبيح كلما رجع فيه ، وهو بدل من " فضلاً " أو من " آتينا " بإضمار قولنا أو قلنا .
" والطير " عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على لفظها
تشبيهاً للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على " فضلاً " ، أو مفعول معه لـ " أوبي " وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال والطير ، فبدل بهذا النظم لما فقيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها . " وألنا له الحديد " جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإلانته أو بقوته .
10. And assuredly We gave David grace from Us, (saying): O ye hills and birds, echo his psalms of praise! And We made the iron supple unto him,
10 - We bestowed Grace aforetime on David from Ourselves: o ye Mountains sing ye back the Praises of God with him and ye birds (also) And We made the iron soft for him;