100 - (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) وهم من شهد بدراً أو جميع الصحابة (والذين اتبعوهم) إلى يوم القيامة (بإحسان) في العمل (رضي الله عنهم) بطاعته (ورضوا عنه) بثوابه (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار) وفي قراءةٍ بزيادة {من} (خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله، " من المهاجرين "، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، " والأنصار "، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله، " والذين اتبعوهم بإحسان "، يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلب رضي الله، " رضي الله عنهم ورضوا عنه ".
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله: " والسابقون الأولون ".
فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، أو أدركوا.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر قال: المهاجرون الأولون، من أدرك البيعة تحت الشجرة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: المهاجرون الأولون، الذين شهدوا بيعة الرضوان.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبدالعزيز قال، حدثنا سفيان عن مطرف، عن الشعبي قال: ((المهاجرون الأولون))، من كان قبل البيعة إلى البيعة، فهم المهاجرون الأولون، ومن كان بعد البيعة، فليس من المهاجرين الأولين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل ومطرف، عن الشعبي قال: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار "، هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن داود، عن عامر قال: فصل بين الهجرتين بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية.
حدثني المثنى قال: أخبرنا عمروا بن عون قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن أبي خالد ومطرف، عن الشعبي قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبثر أبو زبيد، عن مطرف، عن الشعبي قال: المهاجرون الأولون، من أدرك بيعة الرضوان.
وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عثمان الثقفي، عن مولى لأبي موسى، عن أبي موسى قال: المهاجرون الأولون، من صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن مولى لأبي موسى قال: سألت أبا موسى الأشعري عن قوله: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار "، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سموا ((المهاجرين الأولين))؟ قال: من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعاً، فهو من المهاجرين الأولين.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قوله: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار "، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب، وعن أشعث، عن ابن سيرين ، في قوله: " والسابقون الأولون "، قال: هم الذين صلوا القبلتين.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار "، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً.
وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم، وسلكوا مناهجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير، كما:
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: مر عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان "، قال: من أقرأك هذه الآية؟ قال: أقرأنيها أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه! فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال: نعم! قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم!. قال: لقد كنت أرانا رفعنا رفعةً لا يبلغها أحد بعدنا! فقال أبي: تصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، وأوسط الحشر، وآخر الأنفال. أما أول الجمعة: " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " [الجمعة: 3]، وأوسط الحشر: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " [الحشر: 10]، وأما آخر الأنفال: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم " [الأنفال: 75].
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " حتى بلغ: " ورضوا عنه "، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب! فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه! فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم! قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعةً لا يبلغها أحد بعدنا! فقال أبي: بلى، تصديق هذه الآية في أو سورة الجمعة: " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " إلى " وهو العزيز الحكيم " [ الجمعة: 3]، وفي سورة الحشر: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " [الحشر: 10]، وفي الأنفال: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم " [الأنفال: 75]، إلى آخر الآية.
وروي عن عمر في ذلك ما:
حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن هرون، عن حبيب ن الشهيد، وعن ابن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ:" والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان "، فرفع ((الأنصار)) ولم يلحق الواو في ((الذين ))، فقال له زيد بن ثابت " والذين اتبعوهم بإحسان "، فقال عمر: ((الذين اتبعوهم بإحسان))، فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم! فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب. فأتاه، فسأله عن ذلك، فقال أبي: " والذين اتبعوهم بإحسان "، فقال عمر: إذاً نتابع أبياً.
قال أبو جعفر: والقراءة على خفض " الأنصار "، عطفاً بهم على " المهاجرين ".
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: ((الأنصار))، بالرفع، عطفاً بهم على ((السابقين)).
قال أبو جعفر: والقراةء التي لا أستجيز غيرها، الخفض في " الأنصار "، لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأن السابق كان من الفريقين جميعاً، من المهاجرين والأنصار، وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين، دون الخبر عن الجميع، وإلحاق ((الواو)) في ((الذين اتبعوهم بإحسان))، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعاً، على أن ((التابعين بإحسان))، غير " المهاجرين والأنصار "، وأما ((السابقون))، فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: " رضي الله عنهم ورضوا عنه ".
ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام، " وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار "، يدخلونها، " خالدين فيها "، لابثين فيها، " أبدا "، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، " ذلك الفوز العظيم ".
فيه سبع مسائل:
الأولى- لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفاً نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ والأنصار رفعاً عطفاً على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه، لأن السابقين منهما. والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن، ذكره أبو عمر في الاستذكار.
الثانية- نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين، في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقاله الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم. وأما أفضلهم وهي:
الثالثة- فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
الرابعة- وأما أولهم إسلاماً فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاماً؟ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال: أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر، وهو قول ابن عباس وحسان واسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي، روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبد الله: لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علياً أولهم إسلاماً. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل. أول من أسلم خديجة أم المؤمنين، روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضاً عن ابن عباس. وادعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعاً أو خامساً. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي أن علياً أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر.
الخامسة- والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عنسعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافاً في عده من الصحابة.
السادسة- لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:
"نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غداً والنصارى بعد غد". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والإستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه، تيسيره لما يرضاه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
السابعة- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته، ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم، فمات من ليلته. والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف.
قوله تعالى: "والذين اتبعوهم بإحسان" فيه مسألتان:
الأولى- قرأ عمر والأنصار رفعاً. الذين بإسقاط الواو نعتاً للأنصار، فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيداً، فرجع إليه عمر وقال: ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة: "وآخرين منهم لما يلحقوا بهم" [الجمعة:3] وفي سورة الحشر: "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" [الحشر:10]. وفي سورة الأنفال بقوله: "والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم" [الأنفال:75]. فثبتت القراءة بالواو. وبين تعالى بقوله: "بإحسان" ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات، إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم.
الثانية: واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم، فقال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابي، ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل: إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح، لما ثبت أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد:
"دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم (كل يوم) مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه". ومن العجب عد الحاكم أبو عبد الله النعماء وسويداً ابني مقرن المزني في التابعين عند ما ذكر الإخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم. والله أعلم. وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال:
فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، فقيل له: فعلقمة والأسود. فقال: سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود. وعنه أيضاً أنه قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضاً: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة، فهذان أكثر الناس عنهم، وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن، وثالثتهما -وليست كهما- أم الدرداء. وروي عن الحاكم أبي عبد الله قال: طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة، منه إبراهيم بن سويد النخعي وليس بـإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي بن أبي السميط، وبكير بن عبد الله الأشج. وذكر غيرهم قال: وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين، وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، لقي عبد الله بن عمر وأنساً. وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. وأحدهم مخضرم (بفتح الراء) كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفساً، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني (بفتح الخاء)، بطن من همدان، وعبد الرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم، منهم: أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب،والأحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله جل وعز: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران: 110] على ما تقدم. وقوله عز وجل: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [البقرة:143] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وددت أنا لو رأينا إخواننا .. "الحديث. فجعلنا إخوانه، إن اتقينا الله واقتضينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله.
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان, ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم, قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية, وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة, هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الاية, "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا ؟ فقال: أبي بن كعب, فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه, فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الاية هكذا ؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا, فقال أبي تصديق هذه الاية في أول سورة الجمعة "وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم" وفي سورة الحشر " والذين جاؤوا من بعدهم " الاية, وفي الأنفال " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم " الاية, ورواه ابن جرير, قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفاً على والسابقون الأولون, فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم, ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه, فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذاً بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة, فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله, ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون, ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة، وأن منهم التابعين لهم. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ 100- "والأنصار" بالرفع عطفاً على "والسابقون" وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجر. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه، لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: "والسابقون" وفي الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها، قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. قوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الذين اتبعوهم" محذوف الواو وصفاً للأنصار على قراءته برفع الأنصار، فراجعه في ذلك زيد بن ثابت، فسأل أبي بن كعب فصدق زيداً فرجع عمر عن القراءة المذكورة كما رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، ومعنى الذين اتبعوهم بإحسان: الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية، فتكون من في قوله: "من المهاجرين" على هذا للتبعيض، وقيل إنها للبيان، فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة. وقوله: "بإحسان" قيد للتابعين: أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين. قوله: "رضي الله عنهم" خبر للمبتدأ وما عطف عليه، ومعنى رضاه سبحانه عنهم: أنه قبل طاعاتهم وتجاوز عنهم ولم يسخط عليهم "ورضوا عنه" بما أعطاهم من فضله، ومع رضاه عنهم فقد "أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار" في الدار الآخرة. وقرأ ابن كثير "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة من. وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية، وقد تقدم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات وتفسير الخلود والفوز.
100-"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" الآية. قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله: "والسابقون".
واختلفوا في السابقين الأولين، قال سعيد بن المسيب، وقتاد وابن سيرين وجماعة: هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية.
واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قول جابر، قال مجاهد وابن إسحاق، أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال بعضهم: أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو قول ابن عباس و إبراهيم النخعي و الشعبي.
وقال بعضهم: أول من أسلم زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير.
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله رسوله، وكان رجلا محببا سهلا كان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فأسلم على يديه - فيما
بلغني - : عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام. ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام، أما السابقون من الأنصار: فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانوا ستة في العقبة الأولى، وسبعين في الثانية، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
قوله عز وجل: "والسابقون الأولون من المهاجرين" الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم. "والأنصار" أي: ومن الأنصار، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه، "والذين اتبعوهم بإحسان". قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى/ السابقين الأولين.
وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكر ون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء.
وقال أبو صخر حميد بن زياد: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت : من أين تقول هذا؟ فقال: يا هذا اقرأ قول الله تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" إلى أن قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، وقال: "والذين اتبعوهم بإحسان"، شرط في التابعين شريطة وهى أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة.
قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.
روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال:" رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار"، قرأ ابن كثير: "من تحتها الأنهار"، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، "خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم".
100."والسابقون الأولون من المهاجرين"هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدراً والذين أسلموا قبل الهجرة."والأنصار" أهل بيعة العقبة الأولى .وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير.وقرئ عطفاً على "والسابقون"."والذين اتبعوهم بإحسان"اللاحقون بالسابقين من القبيلتين، أو من اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة."رضي الله عنهم"بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم."ورضوا عنه"بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية."وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار"وقرأ ابن كثير(من تحتها الأنهار) كما في سائر المواضع ."خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم".
100. And the first to lead the way, of the Muha'jirin and the Ansar, and those who followed them in goodness Allah is well pleased with them and they are well pleased with Him and He hath made ready for them Gardens underneath which rivers flow, wherein they will abide for ever. That is the supreme triumph.
100 - The vanguard (of Islam) the first of those who forsook (their homes) and of those who gave them aid, and (also) those who follow them in (all) good deeds, well pleased is God with them, as are they with him: for them hath he prepared gardens under which rivers flow, to dwell therein for ever: that is the supreme felicity.