106 - (إن في هذا) القرآن (لبلاغا) كفاية في دخول الجنة (لقوم عابدين) عاملين به
يقول تعالى ذكره : إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله ، إلى رضوانه ، وإدراك الطلبة عنده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية عن الجريري ، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد الحضرمي ، قال : ثنا كعب في هذا المسجد ، قال : والذي نفس كعب بيده ، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ، إنهم لأهل أو أصحاب الصلوات الخمس ، سماهم الله عابدين .
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بان إياس الجريري ، عن أبي الورد عن كعب ، في قوله " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " قال : صوم شهر رضمان ، وصلاة الخمس ، قال : هي ملء اليدين والبحر عبادة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن الحسين ، عن الجريري ، قال : قال كعب الأحبار " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " : لأمة محمد .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " يقول : عاملين .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " قال : يقولون إن في هذه السورة لبلاغا .
ويقول آخرون : في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس ، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين ، قال : عاملين .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " قال : إن في هذا لمنفعة وعلما ، لقوم عابدين ذلك البلاغ .
وقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم ؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة ، دون أهل الكفر ؟ فقال بعضهم : عني بها جميع العالم المؤمن والكافر .
ذكر من قال ذلك :
حدثي إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له سعيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله في كتابه " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال : من آمن بالله واليوم الآخر ، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن المسعودي ، عن أبي سعيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال : تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل .
وقال آخرون : بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال : العالمون : من آمن به وصدقه . قال : " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " قال ، فهو لهؤلاء فتنة ، ولهؤلاء رحمة ، وقد جاء الأمر مجملا رحمة للعالمين ، والعالمون ههنا : من آمن به وصدقه وأطاعه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب : القول الذي روي عن ابن عباس ، وهو أن أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله ، الجنة . وأما كافرهم فأنه دفع به عنه عاجل البلاء ، الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله .
" إن في هذا " أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن " لبلاغا لقوم عابدين " قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " عابدين " مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري : ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل، لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضاً: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.
يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والاخرة ووراثة الأرض في الدنيا والاخرة, كقوله تعالى: "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" وقال: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" وقال: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لامحالة, ولهذا قال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر". قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" فقال الزبور : التوراة والإنجيل, والقرآن وقال مجاهد : الزبور الكتاب, وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور الذي أنزل على داود, والذكر التوراة. وعن ابن عباس : الذكر القرآن, وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله, واختار ذلك ابن جرير رحمه الله, وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول, وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء, والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض, ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" قال: أرض الجنة, وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري , وقال أبو الدرداء نحن الصالحون. وقال السدي : هم المؤمنون, وقوله: "إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين" أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغاً: لمنفعة وكفايةً لقوم عابدين, وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه, وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان, وشهوات أنفسهم.
وقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والاخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والاخرة كما قال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار " وقال تعالى في صفة القرآن: " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال "إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة" انفرد بإخراجه مسلم . وفي الحديث الاخر "إنما أنا رحمة مهداة" رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. قال إبراهيم الحربي . وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة . وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث, فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلاً.
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً, ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرىء وأبي أحمد الحاكم , كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي , حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة" ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد , عن رجل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين".
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان , حدثنا أحمد بن صالح قال: وجدت كتاباً بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف , عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب , عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة : يا معشر قريش إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه, وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً, فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه, فإنه كالأسد الضاري, إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم, والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين, وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج, فهو عدو استعان بعدو, فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً, ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم, وإذ فعلتم الذي فعلتم, فكونوا أكف الناس عنه, قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة, وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم, فيكون وحيداً مطروداً, وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم, وقال:
سأمنح جانباً مني غليظاً على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل إذا ما كان هزل بعد جد.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "والذي نفسي بيده, لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون, إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه, لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب" وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحاً. وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا زائدة , حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حذيفة إلى سلمان , فقال سلمان : يا حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة, فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون, إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة".
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة , فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين , حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال: من آمن بالله واليوم الاخر كتب له الرحمة في الدنيا والاخرة, ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه, والله أعلم, وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال: من تبعه كان له رحمة في الدينا والاخرة, ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف.
106- "إن في هذا لبلاغاً" أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لبلاغاً لكفاية، يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبليغ: أي كفاية، وقيل الإشارة بقوله: "إن في هذا" إلى القرآن "لقوم عابدين" أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها، والعبادة هي الخضوع والتذلل، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورأس العبادة الصلاة.
106. " إن في هذا "، أي في القرآن، " لبلاغاً "، وصولاً إلى البغية، أي من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجوه من الثواب. وقيل: بلاغاً أي كفاية. يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، " لقوم عابدين "، أي المؤمنين الذين يعبدون الله، وقال ابن عباس: عالمين. وقال كعب الأحبار: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان.
106 " إن في هذا " أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد " لبلاغاً " لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية . " لقوم عابدين " همهم العبادة دون العادة .
106. Lo! there is a plain statement for folk who are devout.
106 - Verily in this (Quran) is a message for people who would (truly) worship God.