109 - (وأقسموا) أي كفار مكة (بالله جهد أيمانهم) أي غاية اجتهادهم فيها (لئن جاءتهم آية) مما اقترحوا (ليؤمنن بها قل) لهم (إنما الآيات عند الله) ينزلها كما يشاء وإنما أنا نذير (وما يشعركم) يدريكم بأيمانهم إذا جاءت أي أنتم لا تدرون ذلك (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) لما سبق في علمي ، وفي قراءة بالتاء خطابا للكفار وفي أخرى بفتح أنَّ بمعنى لعل أو معمولة لما قبلها
قوله تعالى وأقسموا الآية أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال كلم رسول الله قريشا فقالوا يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب به الحجر وان عيسى كان يحيي الموتى وان ثمود لهم الناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء تحبون أن آتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا قال فإن فعلت تصدقوني قالوا نعم والله فقام رسول الله يدعو فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وأن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله وأقسموا بالله جهد أيمانهم إلى قوله يجهلون
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم ، وذلك أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدها، "لئن جاءتهم آية"، يقول : قالوا نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدق ما تقول ، يا محمد، مثل الذي جاء من قبلنا من الأمم ، "ليؤمنن بها"، يقول : قالوا: لنصدقن بمجيئها بك ، وأنك لله رسول مرسل ، وأن ما جئتنا به حق من عند الله .
وقيل : "ليؤمنن بها"، فأخرج الخبر عن الآية ، والمعنى لمجيء الآية .
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : "قل إنما الآيات عند الله"، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه ، "وما يشعركم"، يقول : وما يدريكم ، "أنها إذا جاءت لا يؤمنون"؟
وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه ، هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها"، إلى قوله : "يجهلون"، سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية، واستحلفهم : ليؤمنن بها .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : "لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها"، ثم ذكر مثله .
حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فقالوا : يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم . أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً . فشال لهم : فإن فعلت تصدقوني ؟ قالوا : نعم والله ، لئن فعلت لنتبعنك أجمعين! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال له : لك ما شئت ، إن شئت أصبح ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم ، وإن شئت فأندحهم حتى يتوب تائبهم . فقال : بل يتوب تائبهم . فأنزل ألله : "وأقسموا بالله" إلى قوله : "يجهلون".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله : "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون".
فقال بعضهم : خوطب بقوله : "وما يشعركم" المشركون المقسمون بالله ، لئن جاءتهم آية ليؤمنن ، وانتهى الخبر عند قوله : "وما يشعركم"، ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافاً مبتدأ .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وما يشعركم"، قال : ما يدريكم . قال : ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وما يشعركم"، وما يدريكم ، "أنها إذا جاءت"، قال : أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، سمعت عبد الله بن يزيد يقول : "إنما الآيات عند الله"، ثم يستأنف فيقول : إنها إذا جاءت لا يؤمنون.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : "إنما الآيات عند الله وما يشعركم"، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت . ثم استقبل يخبر عنهم فقال : إذا جاءت لا يؤمنون .
وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف إنها، على أن قوله : إنها إذا جاءت لا يؤمنون ، جبر مبتدأ منقطع عن الأول .
وممن قرأ ذلك كذلك ، بعض قرأة المكيين والبصريين .
وقال آخرون منهم : بل ذلك خطاب من الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قالوا : وذلك أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية، المؤمنون به . قالوا : وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك ، أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سل ، يا رسول الله ، ربك ذلك . فسأل ، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك : "قل" للمؤمنين بك يا محمد، "إنما الآيات عند الله وما يشعركم"، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله ، أنهم لا يؤمنون به ، ففتحوا الألف من أن .
وممن قرأ ذلك كذلك ، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة . وقالوا: أدخلت "لا" في قوله : "لا يؤمنون" صلة ، كما أدخلت في قوله: " ما منعك أن لا تسجد " [الأعرأف : 12]، وفي قوله : "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" [الأنبياء : 95]، وإنما المعنى : وحرام عليهم أن يرجعوا ، وما منعك أن تسجد .
وقد تأول قوم قرأوا، ذلك بفتح الألف من "أنها" بمعنى : لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب .
وقد ذكر عن العرب سماعاً منها: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئاً، بمعنى : لعلك تشتري .
وقد قيل : إن قول عدي بن زيد العبادي :
أعاذل ، ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد
بمعنى : لعل منيتي . وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة:
ذريني أطوف في البلاد، لأنني أرى ما ترين ، أو بخيلاً مخلدا
بمعنى : لعلني . والذي أنشدني أصحابنا عن الفراء : لعلني أرى ما ترين.
وقد أنشد أيضاً بيت توبة بن الحمير:
لعلك يا تيساً نزا في مريرة معذب ليلى أن تراني أزورها
لهنك يا تيساً، بمعنى : لأنك التي في معنى لعلك ، وأنشد بيت أبي النجم العجلي:
قلت لشيبان آدن من لقائه أنا نغدي القوم من شوائه
بمعنى : لعلنا نغدي القوم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قول من قال : ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله - أعني قوله: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" - وأن قوله : "أنها"، بمعنى:لعلها.
وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله : "لا يؤمنون".
ولو كان قوله : "وما يشعركم" خطاباً للمشركين ، لكانت القراءة في قوله : "لا يؤمنون"، بالتاء، وذلك ، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك ، فقراءة خارجة عما عليه قرأة الأمصار. وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها .
وإنما معنى الكلام : وما يدريكم ، أيها المؤمنون ، لعل الآيات إذ جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون ، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ، ولا يؤخروا به .
قوله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها" فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: "وأقسموا" أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله. فقوله: جهد أيمانهم أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظناً منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، كما أخبر عنهم بقوله تعالى: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3] وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، كانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كان اليمين بالله. جهد منصوب على المصدر والعامل فيه أقسموا على مذهب سيبويه، لأنه في معناه. والجهد (بفتح الجيم): المشقة، يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد (بضمها): الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحداً، ويحتج بقوله: "والذين لا يجدون إلا جهدهم" [التوبة: 79]. وقرئ جهدهم بالفتح، عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشاً قالت:
يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: أي شيء تحبون؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل يتوب تائبهم فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنن.
الثانية: قوله تعالى: "جهد أيمانهم" قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفةً بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: علي أشد ما أخذه أحد على أحد، فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصور حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكيناً إذا حنث فيها، لأن قوله الأيمان جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارةً. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والأيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات.
قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها، فقال أبو محمد بن أبي زيد: يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله: وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه في ذلك كفارة يمين. قال: ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل: الأيمان تلزمه طلقةً واحدة، لأنه لا يكون أسوأ حالاً من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال: وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم فيمن قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله، فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فإن لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ماله في قوله: وأشد ما أخذه أحد على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الأيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد، فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك بالله فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد، فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله، إذ قد تكون الصدقة بالمال يميناً. والله أعلم.
قوله تعالى: "قل إنما الآيات عند الله" أي قل يا محمد: الله القادر على الإتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. "وما يشعركم" أي وما يدريكم أيمانكم، فحذف المفعول. ثم استأنف فقال: "أنها إذا جاءت لا يؤمنون" بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمر وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون. وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ تؤمنون بالتاء. وقال الفراء وغيره، الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: وما يشعركم أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. أنها بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: أنها بمعنى لعلها، حكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل: "وما يدريك لعله يزكى" [عبس: 3] أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي لعلك. وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه أن تغدي القوم من شوائه
وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل. وقال دريد بن الصمة:
أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلداً
أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير أن بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب وما أدراكم لعلها. وقال الكسائي والفراء: إن لا زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها -أي الآيات- إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت لا، كما زيدت لا في قوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" [الأنبياء: 95]. لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله: " ما منعك أن لا تسجد " [الأعراف: 12]. والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا: هو غلط وخطأ، لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع، ذكره النحاس وغيره.
يقول تعالى إخباراً عن المشركين, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم, أي حلفوا أيماناً مؤكدة "لئن جاءتهم آية" أي معجزة وخارقة "ليؤمنن بها" أي ليصدقنها " قل إنما الآيات عند الله " أي قل: يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الايات, تعنتاً وكفراً وعناداً, لا على سبيل الهدى والاسترشاد, إنما مرجع هذه الايات إلى الله, إن شاء جاءكم بها, وإن شاء ترككم, قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش, فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً, وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة, فآتنا من الايات حتى نصدقك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي شيء تحبون أن آتيكم به", قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً, فقال لهم "فإن فعلت تصدقوني ؟" قالوا: نعم, والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام, فقال له: ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهباً, ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم, وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل يتوب تائبهم" فأنزل الله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" إلى قوله تعالى: "ولكن أكثرهم يجهلون" وهذا مرسل, وله شواهد من وجوه أخر .
وقال الله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " الاية, وقوله تعالى: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم, وما يدريكم بصدقكم, في هذه الأيمان التي تقسمون بها, وعلى هذا فالقراءة " أنها إذا جاءت لا يؤمنون " بكسر أنها استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الايات التي طلبوها, وقرأ بعضهم " أنها إذا جاءت لا يؤمنون " بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون, يقول وما يدريكم أيها المؤمنون, وعلى هذا فيجوز في قوله "أنها" الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم, وعلى هذا فتكون لا في قوله "أنها إذا جاءت لا يؤمنون" صلة كقوله " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " وقوله "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك, وحرام أنهم يرجعون, وتقديره في هذه الاية, وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك, حرصاً على إيمانهم, أنها إذا جاءتهم الايات يؤمنون, قال بعضهم أنها بمعنى لعلها. قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب, قال: وقد ذكر عن العرب سماعاً اذهب إلى السوق, أنك تشتري لنا شيئاً, بمعنى لعلك تشتري, قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقد اختار هذا القول ابن جرير, وذكر عليه من شواهد أشعار العرب والله أعلم. وقوله تعالى: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة" قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية: لما جحد المشركون ما أنزل الله, لم تثبت قلوبهم على شيء, وردت عن كل أمر, وقال مجاهد في قوله "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" ونحول بينهم وبين الإيمان, ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة, وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال ابن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنه, أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه, وعملهم قبل أن يعملوه, وقال "ولا ينبئك مثل خبير" جل وعلا وقال "أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله" إلى قوله "لو أن لي كرة فأكون من المحسنين" فأخبر الله سبحانه, أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى, وقال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون" وقال تعالى: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة" وقال: ولو ردوا إلى الدنيا, لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا, وقوله "ونذرهم" أي نتركهم "في طغيانهم" قال ابن عباس والسدي: في كفرهم. وقال أبو العالية, والربيع بن أنس, وقتادة: في ضلالهم "يعمهون" قال الأعمش: يلعبون, وقال ابن عباس, ومجاهد, وأبو العالية, والربيع, وأبو مالك, وغيره: في كفرهم يترددون.
قوله: 109- "وأقسموا بالله" أي الكفار مطلقاً، أو كفار قريش، وجهد الأيمان أشدها: أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، فلهذا أقسموا به، وانتصاب جهد على المصدرية وهو بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة، ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد، والمعنى: أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها "ليؤمنن بها" وليس غرضهم الإيمان، بل معظم قصدهم التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلاعب بآيات الله، فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله: "إنما الآيات عند الله" هذه الآية التي يقترحونها وغيرها وليس عندي من ذلك شيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها. قوله: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون". قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة من أنها وهي قراءة مجاهد، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود (وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون) قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا: المشركون: أي وما يدريكم، ثم حكم عليهم بقوله: "أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر "أنها إذا جاءت" بفتح الهمزة، قال الخليل: أنها بمعنى لعلها، وفي التنزيل "وما يدريك لعله يزكى" أي أنه يزكى، وحكي عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً: أي لعلك، ومنه قول عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل منيتي، ومنه قول دريد بن الصمة:
أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
أي لعلني، وقول أبي النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه أني بعد اليوم من سوائه
أي لعلي، وقول جرير:
هل أنتم عائجون بنا لأن نرى العرصات أو أثر الخيام
أي لعلنا اهـ. وقد وردت في كلام العرب كثيراً بمعنى لعله. وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أبي بن كعب. وقال الكسائي أيضاً والفراء: إن لا زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها: أي الآيات، إذا جاءت يؤمنون فزيدت كما زيدت في قوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" في قوله: " ما منعك أن لا تسجد " وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا: هو غلط وخطأ. وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفاً والتقدير: أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.
109- قوله عز وجل: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " الآية. قال محمد بن كعب القرظي و الكلبي : "قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون ؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً أو ابعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل، أو أرنا الملائكة يشهدون لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له: اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله عز وجل: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم ""، أي: حلفوا بالله جهد أيمانهم، أي: بجهد أيمانهم، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها.
قال الكلبي و مقاتل : إذا حلف الرجل بالله، فهو جهد يمينه .
" لئن جاءتهم آية "، كما جاءت من قبلهم من الأمم " ليؤمنن بها قل "، يا محمد، " إنما الآيات عند الله "، والله قادر على إنزالها، " وما يشعركم "، وما يدريكم.
واختلفوا في المخاطبين بقوله " وما يشعركم "، فقال بعضهم: الخطاب للمشركين الذين أقسموا.
وقال بعضهم: الخطاب للمؤمنين .
وقوله تعالى: " أنها إذا جاءت لا يؤمنون "، قرأ ابن كثير وأهل البصرة و أبو بكر عن عاصم " إنها " بكسر الألف على الابتداء، وقالوا: تم الكلام عند قوله " وما يشعركم "، فمن جعل الخطاب للمشركين قال: معناه: وما يشعركم أيها [المشركون] أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه:وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله: " وما يشعركم "، ثم ابتدأ فقال جل ذكره: " أنها إذا جاءت لا يؤمنون "، وهذا في قوم مخصوصين [حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون]،وقرأ الآخرون: " أنها " بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين واختلفوا في قوله: " لا يؤمنون "، فقال الكسائي : " لا " صلة، ومعنى الآية: وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ كقوله تعالى " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون "(الأنبياء،95)، أي: يرجعون وقيل: إنها بمعنى لعل، وكذلك هو في قراءة أبي، تقول العرب: اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً، أي: لعلك، وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي: لعل منيتي، وقيل: فيه حذف وتقديره: وما يشعركم أنها إذا جاءت[يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة " لا تؤمنون " بالتاء على الخطاب للكفار واعتبروا بقراءة أبي: إذا جاءتكم] لا تؤمنون، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر، دليلها قراءة الأعمش: أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون.
109 " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " مصدر في موقع الحال ، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها " لئن جاءتهم آية " من مقترحاتهم " ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله " هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي " وما يشعركم " وما يدريكم استفهام إنكار . " أنها "أي أن الآية المقترحة " إذا جاءت لا يؤمنون " أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون ، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب ، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و يعقوب إنها بالكسر كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعا فقال إيمانهم ، فنزلت . وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر و حمزة لا تؤمنونبالتاء وقرئ وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي : وما يشعركم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها .
109. And they swear a solemn oath by Allah that if there come unto them a portent they will believe therein. Say: Portents are with Allah and (so is) that which telleth you that if such came unto them they would not believe.
109 - They swear their strongest oaths by God, that if a (special) sign came to them, by it they would believe. say: certainly (all) signs are in the power of go: but what will make you (Muslims) realize that (even) if (special) signs came, they will not believe.