(كنتم) يا أمة محمد في علم الله تعالى (خير أمة أخرجت) أظهرت (للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان) الإيمان (خيراً لهم منهم المؤمنون) كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه (وأكثرهم الفاسقون) الكافرون
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس".
فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة خاصة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال في "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : هم الذين خرجوا معه من مكة.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة، عن ابن عباس: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال : أنتم فكنا كلنا، ولكن قال : "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال عكرمة : نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السدي عمن حدثه : قال عمر: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة سيئة، فقرأ هذه : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، الآية . ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يعني : وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، أخرجوا للناس في زمانكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، يقول : على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بم الله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" [الدخان: 32].
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال يقول : كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن بين ظهريه ، كقوله : "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" [الدخان: 32].
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام.
حدثنا عبيد بن أسباط قال ، حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : خير الناس للناس.
وقال آخرون : إنما قيل : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثم قال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس".
وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد، عن الحسن في قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال : قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرها وأكرمها على الله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ، وذلك أن:
يعقوب بن إبراهيم حدثني قال ، حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ألا إنكم وفيتم سبعين أمة، أنتم آخرها وأكرمها على الله".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، "عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال : أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة : نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها".
وأما قوله : "تأمرون بالمعروف"، فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه ، "وتنهون عن المنكر"، يعني : وتنهون عن الشرك بالله ، وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه ، كما:
حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، يقول: تأمرونهم بالمعروف : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله ، هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب ، وهو أنكر المنكر.
وأصل المعروف كل ما كان معروفاً فعله ، جميلاً مستحسناً، غير مستقبح في أهل الإيمان بالله ، وإنما سميت طاعة الله معروفاً، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله.
وأصل "المنكر"، ما أنكره الله ، ورأوه قبيحاً فعله . ولذلك سميت معصية الله منكراً، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون ركوبها.
وقوله: "وتؤمنون بالله"، يعني: تصدقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة.
قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : "كنتم خير أمة"، وقد زعمت أن تأويل الآية : أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت ، وإنما يقال : "كنتم خير أمة"، لقوم كانوا خياراً فتغيروا عما كانوا عليه؟.
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة، كما قيل: "واذكروا إذ أنتم قليل" [الأنفال: 26]، وقد قال في موضع آخر: "واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم" [الأعراف: 86]، فإدخال كان في مثل هذه وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه.
ولو قال أيضاً في ذلك قائل : "كنتم"، بمعنى التمام ، كان تأويله: خلقتم خير أمة، أو: وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحاً.
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ ، أخرجت للناس.
والقولان الأولان اللذان قلنا، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل.
وقال آخرون: معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة. وقال: الأمة، الطريقة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله ، لكان خيراً لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم ، "منهم المؤمنون"، يعني : من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، وهم : عبد الله بن سلام وأخوه ، وثعلبة بن سعية وأخوه ، وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله، "وأكثرهم الفاسقون"، يعني : الخارجون عن دينهم . وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه، وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين -أعني اليهود والنصارى- مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به ، الذي قال جل ثناؤه: "وأكثرهم الفاسقون".
وقال قتادة بما:
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"، ذم الله أكثر الناس.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : لن يضركم ، يا أهل الإيمان بالله ورسوله ، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، "إلا أذى"، يعني بذلك: ولكنهم يؤذونكم بشركهم ، وإسماعكم كفرهم ، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولن يضروكم بذلك.
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله ، كما قيل : ما اشتكى شيئاً إلا خيراً، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعاً.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "لن يضروكم إلا أذى"، يقول: لن يضروكم ، إلا أذى تسمعونه منهم.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "لن يضروكم إلا أذى"، قال: أذى تسمعونه منهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله: "لن يضروكم إلا أذى"، قال: إشراكهم في عزير وعيسى والصليب.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: "لن يضروكم إلا أذى" الآية، قال : تسمعون منهم كذباً على الله ، يدعونكم إلى الضلالة.
قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : " روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " : قال : أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله " وقال هذا حديث حسن . وقال أبو هريرة نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام . وقال ابن عباس : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية . وقال عمر بن الخطاب : من فعل فعلهم كان مثلهم . وقيل : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل . وهم الشهداء على الناس يوم القيامة ، كما تقدم في البقرة . وقال مجاهد : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " على الشرائط المذكورة في الآية . وقيل : معناه كنتم في اللوح المحفوظ . وقيل : كنتم مذ أمنتم خير أمة . وقيل : جاء لتقدم البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته . فالمعنى كنتم عند تقدمكم من أهل الكتب خير أمة . وقال الأخفش : يريد أهل أمة ، أي خير أهل دين ، وأنشد :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
وقيل : هي كان التامة ، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة . < فخير أمة > حال . وقيل : كان زائدة ، والمعنى أنتم خير أمة . وأنشد سيبويه
وجيران لنا كانوا كرام
ومثله قوله تعالى : " كيف نكلم من كان في المهد صبياً " [ مريم : 29 ] وقوله : " واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم " [ الأعراف : 86 ] . وقال في موضع آخر : " واذكروا إذ أنتم قليل " [ الأنفال : 26 ] . وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام . قال النحاس : والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة وعلى قول مجاهد كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقيل : إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى . فقيل : هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " كما قال صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني " أي الذين بعثت فيهم .
الثانية : وأذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم ، " فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " الحديث . وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم ، وإلى هذا ذهب معظم العلماء ، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل . وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، " وأن قوله عليه السلام : خير الناس قرني " ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول . وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذي أقام عليهم أو على بعضهم الحدود ، وقال لهم : ما تقولون في السارق والشارب والزاني . وقال مواجهة لمن هو في قرني : " لا تسبوا أصحابي " . " وقال لخالد بن الوليد في عمار : لا تسب من هو خير منك " . " وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : طوبى لمن رأني وآمن بي وطوبى - سبع مرات - لمن لم يرني وآمن بي " وفي مسند أبي داود الطيالسي عن " محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال : كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتدرون أي الخلق أفضل إيماناً . قلنا : الملائكة قال : وحق لهم ، بل غيرهم ، قلنا الأنبياء . قال : وحق لهم بل غيرهم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقاً فيعلمون بما فيها فهم أفضل الخلق إيماناً " . " وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال : قلنا يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ قال : نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتاباً بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني " . وقال أبو عمر : و أبو جمعة : له صحبة واسمه حبيب بن سباع وصالح بن جبير من ثقات التابعين . " وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أمامكم أياماً الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلاً يعمل مثل عمله ، قيل يا رسول الله منهم ؟ قال : بل منكم " قال أبو عمر : وهذه اللفظة < بل منكم > قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها . وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : من فعل مثل فعلكم كان مثلكم . ولا تعارض بين الأحاديث ، لأن الأول على الخصوص ، والله الموفق .
وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب : إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم ، وإن أواخر هذه الأمة إذ أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضاً غربا ، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم ، " ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام : بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء " . ويشهد له أيضاً حديث أبي ثعلبة ، " ويشهد له أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره " . ذكره أبو داود الطيالسي و أبو عيسى الترمذي ، " ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك . قال أبو عمر : هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك . وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب لي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها ، فكتب إليه سالم : إن عملت بسيرة عمر ، فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر ، ولا رجالك كرجال عمر . وكتب إلى فقهاء زمانه ، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم . وقد عارض بعض الجلة من العلماء " قوله صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني " " بقوله صلى الله عليه وسلم : خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله " قال أبو عمر : فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها . والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين ، ويكثر فيه الفسق والهرج ، ويظل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريباً كما بدأ غريباً ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر ، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية ، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب ، والله يؤتي فضله من يشاء .
الثالثة : قوله تعالى : " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به . فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم . وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة .
قوله تعالى : " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم " أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم ، وأخبر أن منهم مؤمناً وفاسقاً ، وأن الفاسق أكثر .
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم, فقال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف , عن سفيان عن ميسرة , عن أبي حازم , عن أبي هريرة رضي الله عنه "كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام, وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس "كنتم خير أمة أخرجت للناس" يعني خير الناس للناس, والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس, ولهذا قال "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك , حدثنا شريك , عن سماك , عن عبد الله بن عميرة , عن زوج درة بنت أبي لهب , عن درة بنت أبي لهب قالت: " قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر, فقال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله, وآمرهم بالمعروف, وأنهاهم عن المنكر, وأوصلهم للرحم" ورواه أحمد في مسنده , و النسائي في سننه , و الحاكم في مستدركه , من حديث سماك , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الاية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه, وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم, كما قال في الاية الأخرى "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" أي خياراً "لتكونوا شهداء على الناس" الاية.
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة , عن أبيه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم توفون سبعين أمة, أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز وجل" وهو حديث مشهور, وقد حسنه الترمذي , ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه, وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه, فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله, وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل, فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه, كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن , حدثنا ابن زهير , عن عبد الله يعني ابن محمد بن عقيل , عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية : أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: " قال رسول الله أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء, فقلنا يا رسول الله ما هو ؟ قال نصرت بالرعب, وأعطيت مفاتيح الأرض, وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً, وجعلت أمتي خير الأمم" تفرد به أحمد من هذا الوجه, وإسناده حسن.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار , حدثنا ليث عن معاوية عن أبي حلبس يزيد بن ميسرة , قال سمعت أم الدرداء رضي الله عنها تقول: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: " سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها يقول إن الله تعالى يقول: يا عيسى إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا, وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا, ولا حلم ولا علم قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم ؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي".
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا, قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم , حدثنا المسعودي حدثنا بكير بن الأخنس , عن رجل, عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب, وجوههم كالقمر ليلة البدر, قلوبهم على قلب رجل واحد, فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً " قال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي , حدثنا هشام بن حسان , عن القاسم بن مهران , عن موسى بن عبيد , عن ميمون بن مهران , عن عبد الرحمن بن أبي بكر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن ربي أعطاني سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر , يا رسول الله فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفاً. قال عمر: فهلا استزدته ؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا " , وفرج عبد الله بن بكر بين يديه, وقال عبد الله : وبسط باعيه, وحثا عبد الله , وقال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما عدده.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان , حدثنا إسماعيل بن عياش , عن ضمضم بن زرعة قال: قال شريح بن عبيد : مرض ثوبان بحمص, وعليها عبد الله بن قرط الأزدي , فلم يعده, فدخل على ثوبان رجل من الكلاعين عائداً, فقال له ثوبان : أتكتب ؟ قال: نعم, قال: اكتب, فكتب للأمير عبد الله بن قرط من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أما بعد فإنه لو كان لموسى وعيسى عليهما السلام بحضرتك خادم لعدته, ثم طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إياه ؟ قال: نعم, فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط , فلما رآه, قام فزعاً, فقال الناس: ما شأنه أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده وجلس عنده ساعة, ثم قام فأخذ ثوبان بردائه, وقال: اجلس حتى أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب, مع كل ألف سبعون ألفاً" تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون, فهو حديث صحيح, ولله الحمد والمنة.
(طريق آخر): قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي , حدثنا محمد بن إسماعيل يعني ابن عياش , حدثني أبي , عن ضمضم بن زرعة , عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي , عن ثوبان رضي الله عنه, قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ربي عز وجل وعدني من أمتي سبعين ألفاً لا يحاسبون,مع كل ألف سبعون ألفاً" هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي بين شريح وبين ثوبان , والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر عن قتادة , عن الحسن , عن عمران بن حصين , عن ابن مسعود رضي الله عنه, قال أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه, فقال "عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها, فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة, والنبي ومعه العصابة, والنبي ومعه النفر, والنبي وليس معه أحد, حتى مر علي موسى عليه السلام ومعه كبكبة من بني إسرائيل, فأعجبوني فقلت: من هؤلاء ؟ فقيل: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل. قال: فقلت: فأين أمتي ؟ فقيل: انظر عن يمينك, فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال ثم قيل لي: انظر عن يسارك. فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال, فقيل لي: أرضيت ؟ فقلت, رضيت يا رب ـ قال ـ فقيل لي: إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فداكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفاً فافعلوا, فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب, فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق, فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله, ادع الله أن يجعلني منهم, أي من السبعين, فدعا له, فقام رجل آخر فقال: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم, فقال قد سبقك بها عكاشة " قال: ثم تحدثنا فقلنا: من ترون هؤلاء السبعين الألف, قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئاً حتى ماتوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هم الذين لا يسترقون, ولا يكتوون ولا يتطيرون, وعلى ربهم يتوكلون " هكذا رواه أحمد بهذا السند وهذا السياق, ورواه أيضاً عن عبد الصمد عن هشام عن قتادة بإسناده مثله, وزاد بعد قوله " رضيت يا رب, رضيت يا رب, قال: رضيت, قلت: نعم. قال انظر عن يسارك ـ قال ـ فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال, فقال: رضيت ؟ قلت: رضيت" وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه تفرد به أحمد , ولم يخرجوه.
(حديث آخر) قال أحمد بن منيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز , حدثنا حماد عن عاصم عن زر , عن ابن مسعود رضي الله عنه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم بالمواسم فراثت علي أمتي, ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم, قد ملؤوا السهل والجبل, فقال: أرضيت يا محمد ؟ فقلت: نعم. قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم, فقال: أنت منهم. فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم, فقال: سبقك بها عكاشة" رواه الحافظ الضياء المقدسي , وقال: هذا عندي على شرط مسلم .
(حديث آخر) قال الطبراني : حدثنا محمد بن الجذوعي القاضي , حدثنا عقبة بن مكرم , حدثنا محمد بن أبي عدي عن هشام بن حسان , عن محمد بن سيرين , عن عمران بن حصين , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب قيل: من هم ؟ قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون, ولا يتطيرون, وعلى ربهم يتوكلون" ورواه مسلم من طريق هشام بن حسان , وعنده ذكر عكاشة .
(حديث آخر) ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً, تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر فقال أبو هريرة : فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه, فقال: يا رسول الله, ادع الله أن يجعلني منهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اجعله منهم ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله, فقال سبقك بها عكاشة ".
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي مريم , حدثنا أبو غسان عن أبي حازم , عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً ـ أو سبعمائة ألف ـ آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة, ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر" أخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابيه عن سهل به.
(حديث آخر) قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور , حدثنا هشيم , أنبأنا حصين بن عبد الرحمن , قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال, أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت: أنا, ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة, ولكني لدغت, قال: فما صنعت ؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك ؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي . قال: وما حدثكم الشعبي ؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال "لا رقية إلا من عين أو حمة", قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع, ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط, والنبي ومعه الرجل والرجلان, والنبي وليس معه أحد, إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي, فقيل لي: هذا موسى وقومه, ولكن انظر إلى الأفق, فنظرت فإذا سواد عظيم, فقيل لي: انظر إلى الأفق الاخر, فإذا سواد عظيم, فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, ثم نهض فدخل منزله " , فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً, وذكروا أشياء, فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "ما الذي تخوضون فيه ؟ فأخبروه, فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون, ولا يتطيرون, وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم , ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم, قال سبقك بها عكاشة" وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد عن هشيم , وليس عنده: لا يرقون.
(حديث آخر) قال أحمد : حدثنا روح بن عبادة , حدثنا ابن جريج , أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر حديثاً, وفيه فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون, ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء" ثم كذلك, وذكر بقيته, رواه مسلم من حديث روح , غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد , سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً, مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب, وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل" وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش به, وهذا إسناد جيد.
(طريق أخرى) عن أبي أمامة . قال ابن أبي عاصم , حدثنا دحيم , حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو , عن سليم بن عامر , عن أبي اليمان الهوزني واسمه عامر بن عبد الله بن لحي , عن أبي أمامة عن رسول الله, قال: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب فقال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله وعدني سبعين ألفاً, مع كل ألف سبعون ألفاً وزادني ثلاث حثيات", وهذا أيضاً إسناد حسن,
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد , حدثنا أبو توبة , حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب, ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفاً, ثم يحثي ربي عز وجل بكفيه ثلاث حثيات" فكبر عمر وقال: إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم, وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر, قال الحافظ الضياء أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثني يحيى بن سعيد , حدثنا هشام يعني الدستوائي , حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة , حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه, قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد أو قال: بقديد فذكر حديثاً وفيه ثم قال " وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب, وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" قال الضياء : وهذا عندي على شرط مسلم .
(حديث آخر) قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة , عن النضر بن أنس , عن أنس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف . قال أبو بكر رضي الله عنه: زدنا يا رسول الله. قال: والله هكذا. فقال عمر : حسبك يا أبا بكر , فقال أبو بكر : دعني وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا, فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق عمر" هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق . قاله الضياء وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني , قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي , حدثنا سليمان بن حرب , حدثنا أبو هلال عن قتادة , عن أنس , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف فقال أبو بكر : يا رسول الله, زدنا. قال: وهكذا وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك, قلت: يا رسول الله, زدنا فقال عمر : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق عمر", هذا حديث غريب من هذا الوجه. و أبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بصري .
(طريق آخر) عن أنس . قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر , حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي , حدثنا حميد عن أنس , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً قالوا: زدنا يا رسول الله. قال: لكل رجل سبعون ألفاً. قالوا: زدنا, وكان على كثيب, فقال هكذا وحثا بيده, قالوا: يا رسول الله أبعد الله من دخل النار بعد هذا " , وهذا إسناد جيد, ورجاله كلهم ثقات, ما عدا عبد القاهر بن السري , وقد سئل عنه ابن معين فقال: صالح.
(حديث آخر) روى الطبراني من حديث قتادة عن أبي بكر بن أنس , عن أبي بكر بن عمير , عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "إن الله وعدني أن يدخل من أمتي ثلثمائة ألف الجنة فقال عمير : يا رسول الله, زدنا, فقال: هكذا, بيده, فقال عمير : يا رسول الله, زدنا فقال عمر : حسبك إن الله إن شاء أدخل الناس الجنة بحفنة أو بحثية واحدة, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم صدق عمر".
(حديث آخر) قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد , حدثنا أبو توبة , حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله بن عامر أن قيساً الكندي حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب, ويشفع كل ألف لسبعين ألفاً, ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه". كذا قال قيس , فقلت لأبي سعيد : آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم بأذني, ووعاه قلبي, قال أبو سعيد : فقال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذلك إن شاء الله عز وجل يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيته من أعرابنا" وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده مثله, وزاد: قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألف.
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني , حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش , حدثني أبي , حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد , عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يخبطون الأرض, تقول الملائكة: لم جاء مع محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء ؟" وهذا إسناد حسن.
(نوع آخر) ـ من الأحاديث الدلة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل, وأنها خير الأمم في الدينا والاخرة, قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد , حدثنا ابن جريج , أخبرني أبو الزبير عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع الجنة قال: فكبرنا, ثم قال: أرجو أن يكونوا ثلث الناس قال: فكبرنا, ثم قال: أرجو أن تكونوا الشطر", وهكذا رواه عن روح عن ابن جريج به, وهو على شرط مسلم . وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون , عن عبد الله بن مسعود , قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ فكبرنا, ثم قال أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فكبرنا, ثم قال إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة".
(طريق أخرى) عن ابن مسعود . قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور , حدثنا عفان بن مسلم , حدثنا عبد الواحد بن زياد , حدثني الحارث بن حصيرة , حدثني القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه , عن عبد الله بن مسعود , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: كيف أنتم وثلثها ؟ قالوا: ذاك أكثر, قال: كيف أنتم والشطر لكم ؟ قالوا: ذاك أكثر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة عشرون ومائة صف, لكم منها ثمانون صفاً" قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حصيرة .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا عبد العزيز بن مسلم , حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني عن محارب بن دثار , عن ابن بريدة , عن أبيه , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أهل الجنة عشرون ومائة صف, هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً" وكذا رواه عن عفان عن عبد العزيز به, وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان به, وقال: هذا حديث حسن, ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن بريدة , عن أبيه به.
(حديث آخر) ـ روى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي : حدثنا خالد بن يزيد البجلي , حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه , عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف, ثمانون منها من أمتي " تفرد به خالد بن يزيد البجلي , وقد تكلم فيه ابن عدي .
(حديث آخر) قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل , حدثنا موسى بن غيلان , حدثنا هاشم بن مخلد , حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان , عن أبي عمرو , عن أبيه عن أبي هريرة , قال: لما نزلت " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم ربع أهل الجنة, أنتم ثلث أهل الجنة, أنتم نصف أهل الجنة, أنتم ثلثا أهل الجنة".
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن ابن طاوس , عن أبيه , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "نحن الاخرون الأولون يوم القيامة, نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق, فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه, الناس لنا فيه تبع, غداً لليهود للنصارى بعد غد" رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, مرفوعاً بنحوه, ورواه مسلم أيضاً من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن الاخرون الأولون يوم القيامة, ونحن أول من يدخل الجنة" وذكر تمام الحديث.
(حديث آخر) ـ روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري , عن سعيد بن المسيب , عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها, وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي", ثم قال: انفرد به ابن عقيل عن الزهري , ولم يرو عنه سواه, وتفرد به زهير بن محمد عن ابن عقيل , وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير . وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ , فقال: حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق , حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عتاب , حدثنا أبو حفص التنيسي ـ يعني عمرو بن أبي سلمة ـ حدثنا صدقة الدمشقي عن زهير بن محمد , عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري . ورواه الثعلبي : حدثنا أبو العباس المخلدي أنبانا أبو نعيم عبد الملك بن محمد , أنبانا أحمد بن عيسى التنيسي , حدثنا عمرو بن أبي سلمة , حدثنا صدقة بن عبد الله عن زهير بن محمد عن ابن عقيل به.
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح, كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها, رأى من الناس سرعة, فقرأ هذه الاية "كنتم خير أمة أخرجت للناس" ثم قال: من سره أن يكون من تلك الأمة, فليؤد شرط الله فيها, رواه ابن جرير , ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" الاية, ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات, شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم, فقال تعالى: "ولو آمن أهل الكتاب" أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " أي قليل منهم من يؤمن با لله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم, وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين ومبشراً لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين, فقال تعالى: "لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون" وهكذا وقع, فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم, وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله, وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن, وسلبوهم ملك الشام أبد الابدين ودهر الداهرين, ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك, ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام, فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية, ولا يقبل إلا الإسلام. ثم قال تعالى: " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون "إلا بحبل من الله" أي بذمة من الله, وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة "وحبل من الناس" أي أمان منهم لهم, كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين, ولو امرأة, وكذا عبد على أحد قولي العلماء, قال ابن عباس "إلا بحبل من الله وحبل من الناس" أي بعهد من الله وعهد من الناس وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس . وقوله " وباءوا بغضب من الله " أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه "وضربت عليهم المسكنة" أي ألزموها قدراً وشرعاً. ولهذا قال "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق" أي وإنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلاً بذل الاخرة, ثم قال تعالى: "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله, وقيضوا لذلك ـ أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله عز وجل والغشيان لمعاصي الله, والاعتداء في شرع الله, فعياذاً بالله من ذلك, والله عز وجل المستعان. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب , حدثنا أبو داود الطيالسي , حدثنا شعبة , عن سليمان الأعمش , عن إبراهيم , عن أبي معمر الأزدي , عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلثمائة نبي, ثم يقوم سوق بقلهم آخر النهار.)
قوله 110- "كنتم خير أمة" هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، وكان قبل هي التامة: أي وجدتم وخلقتم خير أمة، ومثله ما أنشده سيبويه:
وجيران لنا كانوا كرام
ومنه قوله تعالى "كيف نكلم من كان في المهد صبياً" وقوله "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم". وقال الأخفش: يريد أهل أمة: أي خير أهل دين، وأنشد:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
وقيل معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم منذ آمنتم. وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الحرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم وإن كانت متفاضلة في ذات بينها. كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم. قوله "أخرجت للناس" أي: أظهرت لهم. وقوله: "تأمرون بالمعروف" إلخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد: إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون وما بعده في محل نصب على الحال أي: كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ورسوله وما شرعه لعباده، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور. قوله "ولو آمن أهل الكتاب" أي: اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله ورسله وكتبه "لكان خيراً لهم" ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل قالوا: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله "منهم المؤمنون" وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل من قبله "وأكثرهم الفاسقون" أي: الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً من سؤال مقدر كأنه قيل: هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله.
110-"كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وابي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى ابي حذيفة ، رضي الله عنهم ، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهودين قالا لهم : نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه ،فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنها "كنتم خير أمة أخرجت للناس" هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، وقال جويبر عن الضحاك : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .
وروي عن عمر بن الخطاب قال : كنتم خير امة أخرجت للناس تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أنا ابو محمد بعد الرحمن بن أبي شريح أنا ابو القاسم البغويأنا علي بن الجعد أخبرنا شعبة عنابي حمزة: سمعت زهدم بن مضرب عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خيركم قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . قال عمران : لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً وقال : إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن ".
وبهذا الإسناد عن علي بن الجعد اخبرنا شعبة وابو معاوية عن الأعمش عن ذكوان عن ابي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال"لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ".
وقال الآخرون : هم جميع المؤمنين من هذه الأمة .
وقوله "كنتم " أي: أنتم ، كقوله تعلى :"واذكروا إذ كنتم قليلاً" (الأعراف -86) ،وقال في موضع آخر :"واذكروا إذ أنتم قليل "(الأنفال -26) ،وقيل : معناه كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ وقال قوم: قوله "للناس" من صلة قوله "خير أمة" ، أي: انتم خير الناس للناس.
قال ابو هريرة معناه: كنتم خير الناس ، تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام.
قال للناس صلة قوله اخرجت معناه: ما اخرج الله للناس امة خيراً من امة محمد صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا ابو سعيد الشريحي أناابو اسحاق الثعلبي أناابو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ أخبرنا ابو علي الحسين بن محمد بن حبيش المقري أنا علي بن زنجوية اخبرنا سلمة بن شبيب أناعبد الرزاق أنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال:"إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل".
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أناابو معشر إبراهيم بن محمد الفيركي أخبرناابو عبد الله محمد ابن زكريا بن يحيى أخبرناابو الصلت أخبرناحماد بن زيد أخبرنا بن زيد أخبرنا علي بن زيد عن أبي نضره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل".
أخبرنا أبو سعيد الشريحيأناأبو إسحاق الثعلبي، أخبرناأبو عبد الله الحسين بن محمد أنا الفضل بن الفضلأخبرناأبو خليفة الفضل بن الحباب قالعبد الرحمن يعني ابن المبارك أخبرنا حماد بن يحيى الأبح أنا ثابت البناني عن أنس رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " .
أخبرنا ابو سعيد الشريحي أنا أبو اسحاق الثعلبي أنا ابو محمد المخلدي اخبرنا ابو نعيم ، عبد الملك بن محمد بن عدي ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي، أخبرنا عمرو بن ابي سلمة اخبرنا صدقة بن عبد الله عن زهير بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عنسعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها ، وحرمت على الأمم كلهم حتى تدخلها أمتي".
أخبرنا ابو سعيد الشريحي قال : أخبرنا ابو اسحاق الثعلبي اناابو عبد الله الحسين بن محمد اخبرنا ابو القاسم عمر بن محمدبن عبد الله بن حاتم الترمذي اخبرنا جدي لأمي محمد بن عبد الله بن مرزوق انا عفان بن مسلم انا عبد العزيز بن مسلم اخبرنا ابو سنان يعني ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون من هذه الأمة ".
قوله تعالى :"تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " أي : الكافرون .
110" كنتم خير أمة " دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى: "إن الله كان غفوراً رحيماً" وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ، أو فيما بين الأمم المتقدمين. " أخرجت للناس " أي أظهرت لهم. "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" استئناف بين به كونهم " خير أمة "، أو خبر ثان لكنتم. "وتؤمنون بالله" يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله وتصديقاً به وإظهاراً لدينه، واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. "ولو آمن أهل الكتاب" إيماناً كما ينبغي "لكان خيراً لهم" لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه. "منهم المؤمنون" كعبد الله بن سلام وأصحابه. "وأكثرهم الفاسقون" المتمردون في الكفر، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سيبل الاستطراد.
110. Ye are the best community that hath been raised up for mankind. Ye enjoin right conduct and forbid indecency; and ye believe in Allah. And if the People of the Scripture had believed it had been better for them. Some of them are believers; but most of them are evil livers.
110 - Ye are the best of peoples, evolved for mankind. enjoining what is right, forbidding what is wrong, and believing in God. if only the people of the book had faith: it were best for them: among them are some who have faith, but most of them are perverted transgressors.