112 - اذكر (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع) أي يفعل (ربك) وفي قراءة بالفوقانية ونصب ما بعده أي تقدر أن تسأله (أن ينزل علينا مائدة من السماء قال) لهم عيسى (اتقوا الله) في اقتراح الآيات (إن كنتم مؤمنين)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : واذكر، يا عيسى ، أيضا نعمتي عليك ، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف "إذ"، : الثانية من صلة "أوحيت".
واختلفت القرأة في قراءة قوله : "يستطيع ربك".
فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين : هل تستطيع بالتاء ربك بالنصب ، بمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك ؟ أو: هل تستطيع أن تدعو ربك ؟ أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه ؟ وقالوا : لم يكن الحواريون شاكين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك ، وإنما قالوا لعيسى : هل تستطيع أنت ذلك ؟
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر، عن نافع ، عن ابن عمر، عن أبي مليكة قال : قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا : يا عيسى هل تستطيع ربك؟.
حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حسان بن مخارق ، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك : هل تستطيع ربك، وقال : تستطيع أن تسال ربك ؟ وقال : ألا ترى أنهم مؤمنون ؟ .
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق : "هل يستطيع" بالياء "ربك"، بمعنى : أن ينزل علينا ربك ، كما يقول الرجل لصاحبه : أتستطيع أن تنهض معنا في كذا؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه ؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك : هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزل علينا؟ .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب ، قراءة من قرأ ذلك : "هل يستطيع" بالياء "ربك" برفع الرب، بمعنى : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟.
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب ، لما بينا قبل من أن قوله : "إذ قال الحواريون"، من صلة : "إذ أوحيت"، وأن معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك؟ فبين، إذ كان ذلك كذلك ، أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه ، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قبلهم ذلك ، والإقرار لله بالقدرة على كل شيء ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم ، عند قيلهم ذلك له ، استعظاماً منه لما قالوا : "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين". ففي استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك ، واستعظام نبي الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الرب ، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له : هل تستطيع أن تسال ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ أن يستكبر هذا الاستكبار.
فإن ظن ظان أن قولهم ذلك له إنما استعظم منهم ، لأن ذلك منهم كان مسالة آية، فقد ظن خطأ. فإن الآية، إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذبا ليتقرر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً، ويفجر فجاج مكة أنهاراً، من سأله من مشركي قومه -وكما كانت مسألة صالح الناقة، من مكذبي قومه - ومسألة شعيب أن يسقط كسفاً من السماء، من كفار من أرسل إليه.
فإن كان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، على هذا الوجه كانت مسألتهم ، فقد أحلهم الذين قرأوا ذلك ب التاء ونصب الرب محلا أعظم من المحل الذي ظنوا أنهم يحيدون بهم عنه ، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل ، وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر.
فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك ، لأنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه إذا كان فقيراً، أن يسال له ربه أن يغنيه ، وإن عرضت له حاجة، أن يسال له ربه أن يقضيها، فليس ذلك من مسالة الآية في شيء ، بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه ، فسأل نبته مسألة . ربه أن يقضيها له .
وخبر الله تعالى ذكره عن القوم ، ينبىء بخلاف ذلك . وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم : "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، "نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا". فقد أنبأ هذا من قيلهم ، أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم ، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته . فلا بيان أبين من هذا الكلام ، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم ، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى صلى الله عليه وسلم : أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ! ففعلوا، ثم قالوا: يا معتم الخير، قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى : "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، "قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين"، إلى قوله : "لا أعذبه أحدا من العالمين". قال : فاقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال: حدثنا أسباط ، عن السدي : "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، قالوا: هل يطيعك ربك ، إن سألته ؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم ، فأكلوا منها.
وأما المائدة فإنها الفاعلة من : ماد فلان القوم يميدهم ميداً ، إذا أطعمهم ومارهم ، ومنه قول رؤبة:
نهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد
يعني بقوله : الممتاد المستعطى . ف المائدة المطعمة ، سميت الخوان بذلك ، لأنها تطعم الأكل مما عليها. والمائد، المدار به في البحر، يقال : ماد يميد ميدا .
وأما قوله : "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني : قال عيسى للحواريين القائلين له : "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، راقبوا الله ، أيها القوم ، وخافوه ، أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده . وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفر به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته ، "إن كنتم مؤمنين"، يقول : إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم : "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟.
قوله تعالى :" إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم " على ما تقدم من الإعراب: " هل يستطيع ربك " قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد هل تستطيع بالتاء ربك بالنصب وأدغم الكسائي اللام من هل في التاء وقرأ الباقون بالياء ربك بالرفع وهذه القراءة أشكل من الأولى، فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته " أن ينزل " فيستطيع بمعنى يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب وكذلك استطاع أطاع وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمره مقبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى .
قلت: وهذا فيه نظر لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله " [ الصف : 14] و"قال عليه السلام:
لكل نبي حاري وحواري الزبير " ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم فيكف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط وكما قال مم قال من قوم موسى : " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " [ الأعراف : 138] على ما يأتي بيانه في الأعراف إن شاء الله تعالى وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع فالمعنى : هل يفعل ذلك، وهل يجبني غلى ذلك ام لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : " رب أرني كيف تحيي الموتى " [البقرة: 260] على ما تقدم وقد كان إبراهيم على لذلك علم خبر ونظر ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة لأن علم النظر والخبر تدخله الشبهة والاعتراضات وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ولذلك قال الحواريون: " وتطمئن قلوبنا " كما قال إبراهيم " ولكن ليطمئن قلبي "[البقرة: 260]
قلت: هذا تأويل حسن وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال : لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: " هل يستطيع ربك " وردوه عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبراً عن الحواريين لعيسى : " هل يستطيع ربك " ليس بشك في الاستطاعة وإنما هو تلطف في السؤال وأدب مع الله تعالى ، إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كل شيء ممكن وأما قراءة التاء فقيل: المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد- رضي الله عنهما قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا" هل يستطيع ربك " قالت: ولكن هل تستطيع ربك وروي عنها أيضاً أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: له تستطيع ربك وعن معاذ بن جبل قال:
أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم هل تستطيع ربك قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء هل تستطيع ربك وقال الزجاج : المعنى هل يستدعي طاعة ربك فيما تسأله وقيل: هل تستطيع أن تدعوا ربك أو تسأله، والمعنى متقارب ولا بد من محذوف كما قال : " واسأل القرية " [ يوسف:82] وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف " قال اتقوا الله " أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال، فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعبادة " إن كنتم مؤمنين " أي إن كنتم مؤمنين به وربما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة, فيقال سورة المائدة, وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها, فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة, وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل, ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين, فالله أعلم, فقوله تعالى: "إذ قال الحواريون" وهم أتباع عيسى عليه السلام "يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك" هذه قراءة كثيرين, وقرأ آخرون " هل يستطيع ربك " أي هل تستطيع أن تسأل ربك "أن ينزل علينا مائدة من السماء" والمائدة هي الخوان عليه الطعام, وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم, فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم, وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين, "قالوا نريد أن نأكل منها" أي نحن محتاجون إلى الأكل منها, "وتطمئن قلوبنا" إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء, "ونعلم أن قد صدقتنا" أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك "ونكون عليها من الشاهدين" أي ونشهد أنها الاية من عند الله, ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا "وآية منك" أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي, فيصدقوني فيما أبلغه عنك, "وارزقنا" أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب " وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم " أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها, "فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" أي من عالمي زمانكم, كقوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ", وقوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار", وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس, عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون .
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم, فإن أجر العامل على من عمل له, ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً, فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم, كذا رواه ابن جرير, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب, عن الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث, فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد, حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء, قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها, عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس, عن عمار بن ياسر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم, وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد, فخانوا وادخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة, ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار, عن ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن جلاس, عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة, فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا, قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا, فمسخهم الله قردة وخنازير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل, قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر, فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا, فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثني حجاج عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة, نزلت على عيسى بن مريم, عليها سبعة أرغفة, وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً, فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك, يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف, عن عكرمة ومقسم, عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة, وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل, فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة, فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى, فكان يقعد عليها أربعة آلاف, وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم, فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات, وحشا الله بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار, عن إبراهيم بن عمر, عن وهب بن منبه, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الخير, أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة, كره ذلك جداً, فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض, ولا تسألوا المائدة من السماء, فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم, وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها, فأبوا إلا أن يأتيهم بها, فلذلك "قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا" الاية, فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها, قام فألقى عنه الصوف, ولبس الشعر الأسود, وجبة من شعر, وعباءة من شعر, ثم توضأ واغتسل, ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله, فلما قضى صلاته, قام قائماً مستقبل القبلة, وصف قدميه حتى استويا, فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع, ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره, وغض بصره, وطأطأ رأسه خشوعاً, ثم أرسل عينيه بالبكاء, فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه, فلما رأى ذلك دعا الله فقال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها, وغمامة تحتها, وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم, وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها, أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم, ولا تجعلها عذاباً, إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني, إلهي اجعلنا لك شاكرين, اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً, إلهي اجعلها سلامة وعافية, ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط, وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا, وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة, وأقبلت اليهود ينظرون, فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً, ثم انصرفوا بغيظ شديد, وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة, فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة, وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الاية حتى نراها, ونحمد ربنا, ونذكر باسمه, ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته, أنت أولانا بذلك, وأحقنا بالكشف عنها, فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً, ثم دخل مصلاه, فصلى كذلك ركعات, ثم بكى بكاء طويلاً, ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها, ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً, ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل, وقال: بسم الله خير الرازقين, وكشف عن السفرة, فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية, ليس عليها بواسير, ليس في جوفها شوك, يسيل السمن منها سيلاً, قد نضد بها بقول من كل صنف غير الكراث, وعند رأسها خل, وعند ذنبها ملح, وحول البقول خمسة أرغفة, على واحد منها زيتون, وعلى الاخر تمرات, وعلى الاخر خمس رمانات, فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته, أمن طعام الدنيا هذا, أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الايات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة, فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة, إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة, فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين, فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم, يمدكم منه ويزدكم, فإنه بديع قادر شاكر, فقالوا: يا روح الله وكلمته, إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاية, فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة, فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت, فأحياها الله بقدرته, فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية, تلمظ كما يتلمظ الأسد, تدور عيناها, لها بصيص, وعادت عليها بواسيرها, ففزع القوم منها وانحازوا, فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الاية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون, يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت, فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول, فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد, فقال عيسى: معاذ الله من ذلك, يبدأ بالأكل من طلبها, فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها, خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة, فتحاموها, فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم, واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم, وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله, ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة, يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ, ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء, ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون, فاستغنى كل فقير أكل منها, وبرىء كل زمن أكل منها, فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا, وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم, وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات, قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً, الأغنياء والفقراء, والصغار والكبار, والأصحاء والمرضى, يركب بعضهم بعضاً, فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً, فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى, فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا, ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله, وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى, والزمنى دون الأغنياء من الناس, وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم, وشككوا فيها الناس, وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر, وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى, أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق, فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح, طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم, فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً, وأراكم فيها الايات والعبر, كذبتم بها, وشككتم فيها, فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله, فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين, فلما كان في آخر الليل, مسخهم الله خنازير, فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات, هذا أثر غريب جداً, قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة, وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل, والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الاثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم, إجابة من الله لدعوته, كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم "قال الله إني منزلها عليكم" الاية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل, فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء, قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم هو ابن سلام, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم, وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل, وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل, وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن, وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى, وليس هو في كتابهم, ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله, وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً, ولا أقل من الاحاد, والله أعلم, ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت, وهو الذي اختاره ابن جرير, قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى "إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق, وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب, وجد المائدة هنالك مرصعة باللالىء وأنواع الجواهر, فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق, فمات وهي في الطريق, فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده, فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة, ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام, فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم, عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال "وتفعلون ؟" قالوا نعم. قال فدعا, فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال "بل باب التوبة والرحمة" ثم رواه أحمد وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به .
قوله: 112- "إذ قال الحواريون" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر أو نحوه كما تقدم، قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. قرأ الكسائي: " هل يستطيع " بالفوقية، ونصب ربك، وبه قرأ علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد، وقرأ الباقون بالتحتية ورفع ربك. واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريون بأنهم قالوا: "آمنا واشهد بأننا مسلمون" والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم. وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي لا تشكوا في قدرة الله، وقيل إنهم ادعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة، ويرده أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال: "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" وقيل إن ذلك صدر ممن كان معهم، وقيل إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأن يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجب إليه؟ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام: "رب أرني كيف تحيي الموتى" الآية، ويدل على هذا قولهم من بعد "وتطمئن قلوبنا" وأما القراءة الأولى، فالمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك. قال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب "واسأل القرية"، والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماده: إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه قاله قطرب وغيره، وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كـ "عيشة راضية" قاله أبو عبيدة، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة، وقيل إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه.
112- "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك " قرأ الكسائي (هل تستطيع )بالتاء (ربك )بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس و مجاهد ، أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك، وقرأ الآخرون (هل يستطيع) بالياء و(ربك) برفع الباء، ولم يقولوه شاكين في قدرة الله عز وجل، ولكن معناه: هل ينزل ربك أم لا ؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا، وقيل: يستطيع بمعنى يطيع، يقال: أطاع واستطاع بمعنى واحد، كقولهم: أجاب واستجاب، معناه: هل يطيعك ربك بإباحة سؤالك ؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله، وأجرى بعضهم على الظاهر، فقالوا: غلط القوم، وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط، استعظاماً لقولهم " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي: لا تشكوا في قدرته .
" أن ينزل علينا مائدة من السماء "، المائدة الخوان الذي عليه الطعام، وهي فاعلة من: مادة يميده إذا أعطاه وأطعمه، كقوله مارة يميره ، وامتاد: افتعل منه، والمائدة هي المطعمة للآكلين الطعام، وسمي الطعام أيضاً مائدة على الجواز، لأنه يؤكل على المائدة، وقال أثل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين، أي تميل. وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى المفعول، أي تميد بالآكلين إليها، كقوله تعالى " عيشة راضية " أي: مرضية، " قال "، عيسى عليه السلام مجيباً لهم: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين "، فلا تشكوا في قدرته، وقيل: اتقواالله أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان .
112" إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم " منصوب بالذكر، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أن ادعائهم الإخلاص مع قولهم. " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة. وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة. وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب. وقرأ الكسائي " يستطيع ربك " أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف. والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام، من مادة الماء يميد إذا تحرك، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة. " قال اتقوا الله " من أمثال هذا السؤال. "إن كنتم مؤمنين" بكمال قدرته وصحة نبوتي، ا, صدقتم في ادعائكم الإيمان.
112. When the disciples said: O Jesus, son of Mary! Is thy Lord able to send down for us a table spread with food from heaven? He said: Observe your duty to Allah, if ye are true believers.
112 - Behold the disciples said: O Jesus the son of Mary can thy lord send down to us a table set (with viands) from heaven? said Jesus: fear God, if ye have faith.