(و) اذكر يا محمد (إذ غدوت من أهلك) من المدينة (تبوئ) تنزل (المؤمنين مقاعد) مراكز يقفون فيها (للقتال والله سميع) لأقوالكم (عليم) بأحوالكم ، وهو يوم أُحد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بألف أو إلا خمسين رجلاً والمشركون ثلاثة آلاف ونزل بالشعب يوم السبت سابع شوال سنة ثلاثة من الهجرة وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال: أنضحوا عنا بالنبل لا يأتوا من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا
قوله تعالى وإذا غدوت أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلي عن المسور ابن مخرمة قال قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد فقال إقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا وإذا غدوت من أهلك تبويء المؤمنين مقاعد للقتال إلى قوله إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا
قال هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه قال هو تمني المؤمنين لقاء العدو إلى قوله أفإن مات أو قتل انقلبتم قال هو صياح الشيطان يوم أحد قتال محمد إلى قوله أمنة نعاسا قال ألقى عليهم النوم
وأخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله قال فينا نزلت في بني سلمة وبني حارثة إذ همت طائفتان أن تفشلا
وأخرج ابن أبي شبية في المصنف وابن أبي حاتم عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين فشق عليهم فأنزل الله ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم إلى قوله مسومين فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين"، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم ، أيها المؤمنون ، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئاً، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة . وإن أنتم خالفتم ، أيها المؤمنون ، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد، واذكروا ذلك اليوم ، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين.
فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه ، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حل بهم من البلاء بأحد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم.
وأخرج الخطاب في قوله : "وإذ غدوت من أهلك"، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه: الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بين إذاً أن قوله: "وإذ"، إنما جرها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله : "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال".
فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال"، ذلك يوم أحد، غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال"، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال"، فهو يوم أحد.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين"، قال: هذا يوم أحد.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: مما نزل في يوم أحد: "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين".
وقال آخرون:
عنى بذلك يوم الأحزاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان القزاز قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله : "وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، غدا يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال: عنى بذلك يوم أحد. لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عني بالطائفتين: بنو سلمة وبنو حارثة، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد، دون يوم الأحزاب.
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي حدثكم:
ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلى الجمعة إلى أحد، دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل؟"
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رواحاً، فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال؟ عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه. وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد -فيما بلغنا- يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة، بعدما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال.
حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال ، حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمرو بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم.
فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدواً قبل خروجه، وقد علمت أن التبوئة، اتخاذ الموضع؟.
قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه ، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم ، بيوم أو يومين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحداً قال -فيما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط عن السدي- لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع؟ فقالوا: يا رسول الله، اخرج إلى هذه الأكلب! فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له: بم؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف! قال : صدقت. فقتل يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمرو بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت بقراً فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا! فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله ، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته.
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا، على ما وصفه الذين حكينا قولهم.
يقال منه: بوأت القوم منزلاً، وبوأته لهم ، فأنا أبوئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلاً تبوئة.
وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال، وذلك جائز كما يقال: ردفك وردف لك، و نقدت لها صداقها ونقدتها، كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
والكلام: أستغفر الله لذنب.
وقد حكي عن العرب سماعاً: أبأت القوم منزلاً فأنا أبيئهم إباءة، ويقال منه : أبأت الإبل. إذا رددتها إلى المباءة. و المباءة المراح الذي تبيت فيه.
والمقاعد جمع مقعد، وهو المجلس.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت، يا محمد، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكراً وموضعاً لقتال عدوهم.
وقوله: "والله سميع عليم"، يعني بذلك تعالى ذكره: "والله سميع"، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه ، من موضع لقائك ولقائهم عدوك وعدوهم ، من قول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة، وقول من قال لك: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، على ما قد بينا قبل- ولما تشير به عليهم أنت يا محمد، "عليم"، بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق في قوله: "والله سميع عليم"، أي: سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون.
قوله تعالى:" وإذ غدوت من أهلك " العامل في (إذ) فعل مضمر تقديره: أذكر إذ غدوت، يعني خرجت بالصباح. " من أهلك" من منزلك من عند عائشة. " تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم" هذه غزة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها. وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق. وعن الحسن أيضاً: يوم بدر. والجمهور على أنها غزوة أحد، يدل عليه قوله تعالى:" إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، عل رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فرأى رسول الله صلى اللله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقراً له تذبح، وأنه أدخل يده في درع الحصينة المدينه. أخرجهمسلم. فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة. وأصل التبوء اتخاذ المنزل، بوأته منزلاً إذا أسكنته إياه، ومنه قوله عليه السلام:
(من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) أي ليتخذ فيها منزلاً. فمعنى " تبوء المؤمنين" تتخذ لهم مصاف. وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم قال:
(رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشاً وكأن ظبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتب كبش القوم وأولت كسر ظبة سيفي قتل رجل من عترتي). فقتل حمزة وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة، وكان صالحب اللواء. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب. وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له صلحة بن عثمان أخو سعيد بن عثمان اللخمي: هل لك يا عاصم في المبارز؟ قال نعم، فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله، فكان قتل صاحب اللواء تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم (كأني مردف كبشاً).
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور, قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن جرير , وهو غريب لا يعول عليه. وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال قتادة : لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وقال عكرمة : يوم السبت للنصف من شوال, فالله أعلم, وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان فلما رجع قفلهم إلى مكة قال أبناء من قتل, ورؤساء من بقي لأبي سفيان: أرصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك, فجمعوا الجموع والأحابيش, وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة, فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو , واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس "أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة" فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة, فإن أقاموا أقاموا بشر محبس, وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم, ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم, وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته وخرج عليهم, وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله إن شئت أن نمكث, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يحكم الله له" فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه, فلما كانوا بالشوط, رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله, وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم, ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد, وقال "لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال". وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه. وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف . والرماة يومئذ خمسون رجلاً, فقال لهم "انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا, وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم" وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين, وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين, وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف, ومعهم مائتا فرس قد جنبوها, فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد , وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل , ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار , ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الايات, إن شاء الله تعالى, ولهذا قال تعالى: " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " أي تنزلهم منازلهم, وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم "والله سميع عليم" أي سميع لما تقولون, عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالاً حاصله: كيف تقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى: " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " الاية ؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. وقوله تعالى: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الاية, قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله , حدثنا سفيان , قال: قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الاية, قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة. وما نحب ـ وقال سفيان مرة ـ وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى: "والله وليهما" وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة . وقوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر" أي يوم بدر, وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله, ودمغ فيه الشرك, وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسليمن يومئذ, فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً, فيهم فرسان وسبعون بعيراً, والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد, فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله, وبيض وجه النبي وقبيله, وأخزى الشيطان وجيله, ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" أي قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد, ولهذا قال تعالى في الاية الأخرى " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ". وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن سماك , قال: سمعت عياضاً الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة, ويزيد بن أبي سفيان , وابن حسنة, وخالد بن الوليد, وعياض وليس عياض هذا الذي حدث سماكاً قال: وقال عمر : إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة , قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت, واستمددناه, فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني, وإني أدلكم على من هو أعز نصراً, وأحصن جنداً: الله عز وجل فاستنصروه, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم, فإذا جاءكم كتابي هذا, فقاتلوهم ولا تراجعوني, قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ, قال: وأصبنا أموالاً فتشاورنا, فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة, قال: وقال أبو عبيدة : من يراهنني ؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنفزان وهو خلفه على فرس عري, وهذا إسناد صحيح, وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه, واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه, وبدر: محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها, منسوبة إلى رجل حفرها, يقال له: بدر بن النارين, قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدراً, وقوله "فاتقوا الله لعلكم تشكرون" أي تقومون بطاعته.
العامل في إذ فعل محذوف: أي واذكر إذ غدوت من منزل أهلك: أي من المنزل الذي فيه أهلك. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد. وقال الحسن: في يوم بدر. وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: في غزوة الخندق. قوله 121- " تبوء " أي: تتخذ لهم مقاعد للقتال، وأصل التبوء اتخاذ المنزل، يقال بوأته منزلاً: إذا أسكنته إياه، والفعل في محل نصب على الحال. ومعنى الآية: واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال: أي أماكن يقعدون فيها، وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة كما سيأتي، لأنه قد يعبر بالغدو والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما كما يقال، أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى.
121-قوله تعالى:" وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " ،قال الحسن: هو يوم بدر ، وقال مقاتل : يوم الأحزاب ، وقال سائر المفسرين : هو يوم أحد ، لأن ما بعده الى قريب من آخر السورة في حرب أحد .
قال مجاهدو الكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه الى احد فجعل يصف اصحابه للقتال كما يقوم القدح.
قالمحمد بن إسحاقوالسدي عن رجالهما :إن المشركين نزلوا باحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن ابي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يارسول الله أقم بالمدينة لا تخرج اليهم ، فوالله ما خرجنا منها الى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ، فدعهم يارسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وان دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي.
وقال بعض اصحابه : يارسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب ، لايرون أنا جبنا عنهم وضعفنا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أني رأيت في منامي بقراً تذبح، فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولتها هزيمةً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ،فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة ". وكان يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة ، فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر واكرمهم الله الشهادة يوم أحد : اخرج بنا الى أعدائنا . فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حبهم للقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته ، فلما رأوه قدلبس السلاح ندموا ، وقالوا:بئس ما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ، فقاموا واعتذروا اليه وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ".
وكان قد أقام المشركون باحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إليهم ، فأصبح بالشعب من احد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، فكان من حرب أحد ماكان ، فذلك قوله تعالى :"وإذ غدوت من أهلك" أي: واذكر اذا غدوت من اهلك " تبوء المؤمنين " أي: تنزل المؤمنين " مقاعد للقتال" أي: مواطن ، ومواضع للقتال ، يقال : بوأت القوم اذا وطنتهم ، وتبوؤا هم اذا تواطنوا ، قال الله تعالى:"ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق " (يونس-93) وقال " أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا " (يونس-87) وقيل تتخذ معسكراً ، "والله سميع عليم".
121"وإذ غدوت" أي واذكر إذا غدوت. "من أهلك" أي من حجرة عائشة رضي الله عنها. " تبوء المؤمنين " تنزلهم. أو تسوي وتهيء لهم ويؤيده القراءة باللام. . "مقاعد للقتال" مواقف وأماكن له، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى: "في مقعد صدق" وقوله تعالى: "قبل أن تقوم من مقامك". "والله سميع" لأقوالكم. "عليم" بنياتكم روي "أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء -ثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة- فاستشار الرسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار: أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام والسلام: رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فان رأيتم أن تقيموا في المدينة وتدعوهم، فقال رجال
فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا. وبالغوا حتى دخل ولبس لامته، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل. فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال: انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا".
121. And remember when thou settedst forth at daybreak from thy housefolk to assign to the believers their positions for the battle, Allah was Hearer, Knower.
121 - Remember that morning thou didst leave thy household (early) to post the faithful at their stations for battle: and God heareth and knoweth all things: