14 - (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) فيها
"إنني أنا الله" يقول تعالى ذكره : إنني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، لا إله إلا أنا فلا تعبد ضيري ، فإنه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي "فاعبدني" يقول : فاخلص العبادة لي دون كل ما عبد من دوني "وأقم الصلاة لذكري".
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : معنى ذلك : أقم الصلاة لي فإنك إذا أقمتها ذكرتن ي.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، في قوله "أقم الصلاة لذكري" قال : إذا صلى ذكر ربه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد، قوله "وأقم الصلاة لذكري" قال : إذا ذكر عبد ربه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأقم الصلاة حين تذكرها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله "وأقم الصلاة لذكري" قال : يصليها حين يذكرها.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ومالك بن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، "عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها"، قال الله "أقم الصلاة لذكري". وكان الزهري يقرؤها : "أقم الصلاة لذكري" بمنزلة فعلى.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : معناه : أقم الصلاة لتذكرني فيها، لأن ذلك أظهر معنييه ، ولو كان معناه : حين تذكرها، لكان التنزيل : أقم الصلاة لذكركها. وفي قوله "لذكري" دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك. ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قرأة الأمصار، كان صحيحاً تأويل من تأوله بمعنى : أقم الصلاة حين تذكرها، وذلك أن الزهري وجه بقراءته "أقم الصلاة لذكري"، بالألف لا بالإضافة ، إلى أقم لذكراها ، لأن الهاء والألف حذفتا ، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رءوس الآيات ، إذ كانت بالألف والفتح . ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه ، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رءوس الآيات قبله وبعده ، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة ، وقال : إنما ذلك كقول ا لشاعر:
أطوف ما أطوف ثم آوي إلى أما ويرويني النقيع
وهو يريد : إلى أمي ، وكقول العرب : يا أبا وأما، وهي تريد : يا أبي وأمي ، وكان له بذلك مقال.
قوله تعالى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " فيه سبع مسائل:
الأولى: اختلف في تأويل قوله:" لذكري " فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكراً في قوله: " فاسعوا إلى ذكر الله " [الجمعة: 9]. وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر " فليصلها إذا ذكرها ". أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.
الثانية: روى مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: " وأقم الصلاة لذكري " " . وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع - قال: حدثنا قتادة عن أنس بن مالك قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: كفارتها أن يصليها إذا ذكرها " تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة . وروى الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها " فقوله: " فليصلها إذا ذكرها " دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء. وقد حكي خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء.
قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال:" أقم الصلاة لدلوك الشمس " [الإسراء: 78] الآية وغيرها من الآي. ومن أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقاً لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص، وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قوله عليه الصلاة والسلام: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء، لأن القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.
الثالثة: فأما من ترك الصلاة متعمداً، فالجمهور أيضاً على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصياً إلا داود. ووافقه أبو عبد الرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم، فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: " أقيموا الصلاة " ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضاً فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضاً قوله: " من نام عن صلاة أو نسيها " والنسيان الترك، قال الله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " [التوبة: 67] و " نسوا الله فأنساهم أنفسهم " [الحشر: 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن، لأن الله تعالى لا ينسى وإنما معناه تركهم و " ما ننسخ من آية أو ننسها " [البقرة: 106] أي نتركها. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى:
(من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) وهو تعالى لا ينسى وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: إذا ذكرها أي علمها. وأيضاً فإن الديون التي للآدميين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضاً فقد اتفقنا أنه لو ترك يوماً من رمضان متعمداً بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فإن قيل فقد روي عن مالك : من ترك الصلاة متعمداً لا يقضي أبداً. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاماً خرج على التغليظ، كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامداً لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، أو اتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يجزه صيام الدهر وإن صامه " وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ، وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود . وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم، والحمد لله تعالى.
الرابعة: قوله عليه الصلاة والسلام " من نام عن صلاة أو نسيها " الحديث، يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ " والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: " وعن الصبي حتى يحتلم " وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقف على هذا الأصل.
الخامسة: اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك : أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة و الثوري و الليث ، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي . قال الشافعي : الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال عليه الصلاة والسلام:
" إذا ذكر أحدكم صلاة في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي " وعمر بن أبي عمر مجهول.
قلت: وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبد الله:
" أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله إن صليتها. فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب ". وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
" أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربعة صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالاً فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء. وبهذا استدل العلماء على أن من فاتته صلاة قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك و الليث و الزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني: يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن و الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث: يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب.
وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، قاله القاضي عياض . واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك : الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر، ولم يختلف المذهب أن الست كثير.
السادسة: وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة، فإن كان وراء الإمام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به، يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك و الدارقطني عن ابن عمر قال:
" إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام " لفظ الدارقطني ، وقال موسى بن هارون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد به ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة و أحمد بن حنبل : يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات، على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعاً، فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك : من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتيه، فإن كان إماماً انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك ، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك، لأن قوله فيمن ذكر صلاة في صلاةقد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.
السابعة: روى مسلم عن أبي قتادة قال:
" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: أما لكم في أسوة، ثم قال: أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي، ويعضد هذا الظاهر ما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها:
" فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها ".
قلت: وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة، لما رواه الدارقطني عن عمران بن حصين قال:
" سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة - أو قال في سرية - فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعاً دهشاً، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة، فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم ". وقال الخطابي : لا أعلم أحداً قال بهذا وجوباً، ويشبه أن يكون الأمر به استحباباً ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقوله عليه السلام: " أينهاكم الله عن الربا ويقبله منك " ولأن الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شيء، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه.
قلت: ذكر الكيا الطبري في أحكام القرآن له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام:
" من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل، فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ.
يقول تعالى: "فلما أتاها" أي النار, واقترب منها "نودي يا موسى" وفي الاية الأخرى " نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله " وقال ههنا "إني أنا ربك" أي الذي يكلمك ويخاطبك "فاخلع نعليك" قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي, وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة, وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل, وقيل غير ذلك, والله أعلم.
وقوله: "طوى" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو اسم للوادي, وكذا قال غير واحد, فعلى هذا يكون عطف بيان, وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه, وقيل: لأنه قدس مرتين, وطوى له البركة وكررت, والأول أصح كقوله: "إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى". وقوله: "وأنا اخترتك" كقوله: "إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي" أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه, وقد قيل: إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتلكيم من بين الناس ؟ قال: لا, قال: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله: "فاستمع لما يوحى" أي استمع الان ما أقول لك وأوحيه إليك "إنني أنا الله لا إله إلا أنا" هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وقوله: "فاعبدني" أي وحدني, وقم بعبادتي من غير شريك "وأقم الصلاة لذكري" قيل: معناه صل لتذكرني, وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي, ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة , عن أنس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها, فليصلها إذا ذكرها, فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري", وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك". وقوله: "إن الساعة آتية" أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها.
وقوله: "أكاد أخفيها" قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أكاد أخفيها من نفسي, يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : من نفسه: وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "أكاد أخفيها" يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري. وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي, يقول: كتمتها عن الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة : أكاد أخفيها, وهي في بعض القراءات: أخفيها من نفسي, ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين. قلت وهذا كقوله تعالى: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله" وقال: "ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة" أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا منجاب , حدثنا أبو نميلة , حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير : أكاد أخفيها, يعني بنصب الألف وخفض الفاء, يقول أظهرها, ثم قال أما سمعت قول الشاعر:
دأب شهرين ثم شهراً دميكاً بأريكين يخفيان غميراً
قال السدي : الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس, والأريكين موضع, والدميك الشهر التام, وهذا الشعر لكعب بن زهير . وقوله سبحانه وتعالى: "لتجزى كل نفس بما تسعى" أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " " إنما تجزون ما كنتم تعملون " وقوله: "فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها" الاية, المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة, وأقبل على ملاذه في دنياه, وعصى مولاه واتبع هواه, فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر "فتردى" أي تهلك وتعطب, قال الله تعالى: "وما يغني عنه ماله إذا تردى".
وجملة 14- "إنني أنا الله" بدل من ما في لما يوحى. ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: " فاعبدني " والفاء هنا كالفاء التي قبلها لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة "وأقم الصلاة لذكري" خص الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله "لذكري": أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. وقيل المعنى: لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول.
14 - " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ، ولا تعبد غيري ، " وأقم الصلاة لذكري " ، قال مجاهد : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، وقال مجاهد إذا تركت الصلاة ثم ذكرتها، فأقمها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحين ، أخبرنا أبوعمرو بكر بن محمد المزني ، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله الحفيد ، أخبرنا الحسين بن الفضل البجلي ، أخبرنا عفان ، أخبرنا قتادة عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من نسي صلاةً فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك " ، ثم قال : سمعته يقول بعد ذلك : " وأقم الصلاة لذكري " .
14ـ " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل . " وأقم الصلاة لذكري " خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها ، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره . وقيل " لذكري " لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالثناء ، أو " لذكري " خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري . وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري " .
14. Lo! I, even I, am Allah. There is no God save Me. serve Me and establish worship for My remembrance.
14 - Verily, I am God: there is no god but I: so serve thou me (only), and establish regulate prayer for celebrating my praise.