15 - (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)
يقول تعالى ذكره : ثم إنكم أيهم الناس من بعد إنشائكم خلقا آخر وتصييرناكم إنسانا سويا ميتون و عائدون ترابا كما كنتم ، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا مبعوثون من التراب خلقا جديدا ، كما بدأناكم أنل مرة . و إنما قيل : " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن .
وكذلك تقول العرب لمن لم يمت : هو مائت و ميت عن قليل ، ولا يقولون لمن قد مات مائت ، و كذلك هو طمع فيما عندك ، إذا وصف بالطمع ، فإذا أخبر عنه أنه سيفعل و لم يفعل قيل هو طامع فيما عندك غدا ، وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرا لما ذكرناه .
قوله تعالى: " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " أي بعد الخلق والحياة. النحاس : ويقال في هذا المعنى لمائتون.
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين, وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون. وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس "من سلالة من طين" قال: من صفوة الماء. وقال مجاهد : من سلالة أي من مني آدم. وقال ابن جرير : إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه وقال قتادة : استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق, فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب, وهو الصلصال من الحمإ المسنون, وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد , حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب وبين ذلك" وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به نحوه. وقال الترمذي : حسن صحيح "ثم جعلناه نطفة" هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الاية الأخرى: " وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " أي ضعيف, كما قال: " ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في قرار مكين " يعني الرحم معد لذلك مهيأ له " إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون " أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة, ولهذا قال ههنا: " ثم خلقنا النطفة علقة " أي ثم صيرنا النطفة, وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره, وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة, فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة, قال عكرمة : وهي دم "فخلقنا العلقة مضغة" وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط "فخلقنا المضغة عظاماً" يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون " فخلقنا المضغة عظاما " قال ابن عباس : وهو عظم الصلب, وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب" "فكسونا العظام لحماً" أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه"ثم أنشأناه خلقاً آخر" أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب "فتبارك الله أحسن الخالقين". وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا جعفر بن مسافر , حدثنا يحيى بن حسان , حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم , حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث, فذلك قوله: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" يعني نفخنا فيه الروح, وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح, قال ابن عباس "ثم أنشأناه خلقاً آخر" يعني فنفخنا فيه الروح, وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد , واختاره ابن جرير .
وقال العوفي عن ابن عباس "ثم أنشأناه خلقاً آخر" يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً, ثم احتلم ثم صار شاباً, ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك, ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال, والله أعلم. قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله ـ هو ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه, وأجله, وعمله, وهل هو شقي أو سعيد, فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها" أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر, فتمكث أربعين يوماً, ثم تعود في الرحم فتكون علقة. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين بن الحسن , حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه, فقالت قريش: " يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي, فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي, قال: فجاءه حتى جلس, فقال: يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال :يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة, فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب, وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم فقال: هكذا كان يقول من قبلك " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة, فيقول: يا رب ماذا ؟ أشقي أم سعيد, أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله, فيكتبان, ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه, ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص" وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه, ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة , حدثنا حماد بن زيد , حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وكل بالرحم ملكاً, فيقول: أي رب نطفة, أي رب علقة, أي رب مضغة, فإذا أراد الله خلقها قال: أي رب, ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ قال: فذلك يكتب في بطن أمه" أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: "فتبارك الله أحسن الخالقين" يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق, قال: "فتبارك الله أحسن الخالقين" قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب , حدثنا أبو داود , حدثنا حماد بن سلمة , حدثنا علي بن زيد عن أنس قال: قال عمر , يعني ابن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي ووافقني في أربع: نزلت هذه الاية "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" الاية, قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين, فنزلت "فتبارك الله أحسن الخالقين". وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس , حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي , عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر " فقال معاذ "فتبارك الله أحسن الخالقين" فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له معاذ : " مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال: بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين" وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جداً, وفي خبره هذا نكارة شديدة, وذلك أن هذه السورة مكية, وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة, وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضاً, فالله أعلم. وقوله: "ثم إنكم بعد ذلك لميتون" يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت "ثم إنكم يوم القيامة تبعثون" يعني النشأة الاخرة " ثم الله ينشئ النشأة الآخرة " يعني يوم المعاد. وقيام الأرواح إلى الأجساد, فيحاسب الخلائق, ويوفى كل عامل عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
15- "ثم إنكم بعد ذلك لميتون" الإشارة بقوله: "ذلك" إلى الأمور المتقدمة: أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة.
15. " ثم إنكم بعد ذلك لميتون "، والميت -بالتشديد- والمائت الذي لم يمت بعد وسيموت، والميت -بالتخفيف-: من مات، ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا، كقوله: " إنك ميت وإنهم ميتون " (الزمر-30).
15ـ " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " لصائرون إلى الموت لا محالة ، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت دون اسم الفاعل وقد قرئ به .
15. Then lo! after that ye surely die.
15 - After that, at length ye will die.