169 - (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب) التوراة عن آبائهم (يأخذون عرض هذا الأدنى) أي حطام هذا الشيء الدنيء من حلال وحرام (ويقولون سيغفر لنا) ما فعلناه (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) الجملة حال أي يرجون المغفرة وهم عائدون إلى مافعلوه مصرون عليه وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار (ألم يؤخذ) استفهام تقرير (عليهم ميثاق الكتاب) الإضافة بمعنى في (أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا) عطف على يؤخذ ، قرؤوا (ما فيه) فلم كذبوا عليه ينسبة المغفرة إليه مع الإصرار (والدار الآخرة خير للذين يتقون) الحرام (أفلا يعقلون) بالياء والتاء ، أنها خير فيؤثرونها على الدنيا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم، " خلف "، يعني: خلف سوء. يقول: حدث بعدهم وخلافهم، وتبدل منهم، بدل سوء.
يقال منه: ((هو خلف صدق))، و (( خلف سوء))، وأكثر ما جاء في المدح بفتح ((اللام))، وفي الذم بتسكينها، وقد تحرك في الذم، وتسكن في المدح، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان:
لنا القدم الأولى إليك، وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد، مأخوذ من قولهم: ((خلف اللبن))، إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد، فكأن الرجل الفاسد مشبه به. وقد يجوز أن يكون من قولهم: ((خلف فم الصائم))، إذا تغيرت ريحه. وأما في تسكين ((اللام)) في الذم، فقول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقيل: إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خلفوا من قبلهم، هم النصارى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " فخلف من بعدهم خلف "، قال النصارى.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره، إنما وصف أنه خلف القوم الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت، خلف سوء رديء، ولك يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أسبه منها بقصص النصارى.
وبعد، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل، وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبراً عنهم أشبه، إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به.
فتأويل الكلام إذاً: فتبدل من بعدهم بدل سوء، ورثوا كتاب الله فعلموه، وضيعوا العمل به، فخالفوا حكمه، يرشون في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل " الأدنى "، يعني بـ" الأدنى " الأقرب من الآجل الأبعد. ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا، تمنياً على الله الأباطيل، كما قال جل ثناؤه: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " [البقرة: 79]، " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، يقول: وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك، أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت عنه عباراتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن سعيد بن جبير في قوله: " يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، قال: من الذنوب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: " يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا "، قال: يعملون بالذنوب، " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، قال: ذنب آخر، يعملون به.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: " يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: الذنوب، " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، قال: الذنوب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه، إلا أنه قال: يتمنون المغفرة.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعيد، عن مجاهد : " يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة، ويقولون: " سيغفر لنا "، وإن يجدوا عرضاً مثله يأخذوه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فخلف من بعدهم خلف "، إي والله، لخلف سوء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " [مريم: 59]، قال: " يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا "، تمنوا على الله أماني، وغرة يغترون بها. " وإن يأتهم عرض مثله "، لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالاً كان أو حراماً.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراماً، " وإن يأتهم عرض مثله "، قال: إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " فخلف من بعدهم خلف " إلى قوله: " ودرسوا ما فيه "، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، فجعل الرجل منهم إذا استقضي ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي! فيطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع. فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه. وأما ((عرض الأدنى))، فعرض الدنيا من المال.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا "، يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام، ويقولون: " سيغفر لنا ".
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: الكتاب الذي كتبوه، " ويقولون سيغفر لنا "، لا نشرك بالله شيئاً، " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، يأتهم المحق برشوة فيخرجوا له كتاب الله، ثم يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاؤهم برشوة أخرجوا له ((المثناة))، وهو الكتاب الذي كتبوه، فحكموا له بما في ((المثناة)) بالرشوة، فهو فيها محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله: " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى "، قال: يعملون بالذنوب، " ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه "، قال: الذنوب.
القول في تأويل قوله: " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " ألم يؤخذ "، على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: ((سيغفر الله لنا فعلنا هذا))، إذا عوتبوا على ذلك، " ميثاق الكتاب "، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل، بإقامة التوراة، والعمل بما فيها. فقال جل ثناؤه لهؤلاء الذين قص قصتهم في هذه الآية، موبخاً على خلافهم أمره، ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه، ألا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأن لا يكذبوا عليه؟ كما:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق "، قال: فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.
وأما قوله: " ودرسوا ما فيه "، فإنه معطوف على قوله: " ورثوا الكتاب "، ومعناه: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب "، " ودرسوا ما فيه "، ويعني بقوله: " ودرسوا ما فيه "، قرأوا ما فيه، يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك، كما:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ودرسوا ما فيه "، قال: علموه، علموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: " بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " [آل عمران: 79].
قال أبو جعفر: " والدار الآخرة خير للذين يتقون "، يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعاد عند الله، مما أعد لأوليائه، والعاملين بما أنزل في كتابه، المحافظين على حدوده، " خير للذين يتقون " الله، ويخافون عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم، أفلا يعقلون ، يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون: " سيغفر لنا "، أن ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله، والقضاء بين الناس بالجور؟
قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف" يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. والخلف بفتح اللام البدل، ولداً كان أو غريباً. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر سكت ألفاً ونطق خلفاً. فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. "قال صلى الله عليه وسلم:
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر:
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى: خضف، أي ردم. والمقصود من الآية الذم. "ورثوا الكتاب" قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخاً لهم وتقريعاً. "يأخذون عرض هذا الأدنى" ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. "ويقولون سيغفر لنا" وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى: "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه" والعرض: متاع الدنيا، بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم سيغفر لنا وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.
قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئاً. وقيل: إن الضمير في يأتهم ليهود المدينة، أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم.
قوله تعالى: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون" فيه مسألتان.
الأولى: قوله تعالى: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل.
قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في النساء. ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: "ودرسوا ما فيه" أي قرؤوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبد الرحمن وادارسوا ما فيه فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس: "ولا تقولوا على الله إلا الحق" وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد يعني في الأحكام التي يحكمون بها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء: إن معنى "ودرسوا ما فيه" أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ -أي موافق- لقوله تعالى: "نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم" الآية. [البقرة: 101] وقوله: "فنبذوه وراء ظهورهم" [آل عمران: 187] حسب ما تقدم بيانه في البقرة.
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمماً أي طوائف وفرقاً كما قال " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " "منهم الصالحون ومنهم دون ذلك" أي فيهم الصالح وغير ذلك كقول الجن "وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً" "وبلوناهم" أي اختبرناهم "بالحسنات والسيئات" أي بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء "لعلهم يرجعون" ثم قال تعالى "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى" الاية يقول تعالى: فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة وقال مجاهد: هم النصارى وقد يكون أعم من ذلك "يأخذون عرض هذا الأدنى" أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه, ولهذا قال "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه" وكما قال سعيد بن جبير يعملون الذنب ثم يستغفرون الله منه ويعترفون لله فإن عرض ذلك الذنب أخذوه وقال مجاهد في قوله تعالى: "يأخذون عرض هذا الأدنى" قال لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ويتمنون المغفرة "ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه", وقال قتادة في الاية إي والله لخلف سوء "ورثوا الكتاب" بعد أنبيائهم ورسلهم أورثهم الله وعهد إليهم, وقال الله تعالى في آية أخرى "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" الاية قال "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا" تمنوا على الله أماني وغرة يغترون بها "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه" لا يشغلهم شيء ولا ينهاهم شيء عن ذلك كلما هف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالاً كان أو حراماً, وقال السدي: قوله "فخلف من بعدهم خلف" إلى قوله "ودرسوا ما فيه" قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى فيقال له ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول سيغفر لي, فتطعن عليه البقية الاخرون من بني إسرائيل فيما صنع فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي, يقول وإن يأت الاخرين عرض الدنيا يأخذوه قال الله تعالى: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق" الاية يقول تعالى منكراً عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ولا يكتمونه كقوله "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون" وقال ابن جريج قال ابن عباس "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق" قال فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها, وقوله تعالى " والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " يرغبهم في جزيل ثوابه ويحذرهم من وبيل عقابه, أي وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم وترك هوى نفسه وأقبل على طاعة ربه "أفلا تعقلون" يقول أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير, ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما هو مكتوب فيه فقال تعالى: "والذين يمسكون بالكتاب" أي اعتصموا به واقتدوا بأوامره, وتركوا زواجره "وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين".
169- "فخلف من بعدهم خلف" المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
"ورثوا الكتاب" أي التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها "يأخذون عرض هذا الأدنى" أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والأدنى مأخوذ من الدنو، وهو القرب: أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها، وقيل: إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط: أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء السابق "ويقولون سيغفر لنا" أي يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، وجملة "يأخذون" يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم أو في محل نصب على الحال، وجملة "يقولون" معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " في محل نصب على الحال: أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل: الضمير في "يأتيهم" ليهود المدينة: أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" أي التوراة "أن لا يقولوا على الله إلا الحق" والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة "ودرسوا ما فيه" معطوفة على "يؤخذ" على المعنى، وقيل على "ورثوا الكتاب"، والأولى أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى: أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً. وقيل: معنى "درسوا ما فيه" أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار: إذا محتها "والدار الآخرة خير" من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها "للذين يتقون" اله ويجتنبون معاصيه "أفلا تعقلون" فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
169 - قوله عز وجل : " فخلف من بعدهم " ، أي : جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم " خلف " ، والخلف : القرن الذي يجيء بعد قرن . قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ،والخلف بفتح اللام : البدل سواء كان ولداً أو غريباً .
وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالجزم : الطالح .
وقال النضر بن شميل : الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد ، وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير .
وقال محمد بن جرير : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام ، وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح . " ورثوا الكتاب " ، أي : انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة ، " يأخذون عرض هذا الأدنى " ، فالعرض متاع الدنيا ، والعرض ، بسكون الراء ، ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير . وأراد الأدنى العالم ، وهو هذه الدار الفانية ، فهو تذكير الدنيا ، وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيعوا العمل بما فيها ، وخالفوا حكمها ، يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته ، " ويقولون سيغفر لنا " ، ذنوبنا يتمنون على الله الأباطيل .
أخبرنا محمد بن عبدالله بن أبي توبة أنبأنا أبو طاهر ، محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبدالله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبدالله الخلال ، أنبأنا عبدالله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " .
" وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب ، يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ، ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه . وقال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم ، فيقال له : ما لك ترتشي ؟ فيقول : سيغفر لي ، فيطعن عليه الآخرون ، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضاً . يقول : وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه .
" ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق " ، أي : أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل ، وهي تمني المغفرة مع الإصرار ، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مر الإصرار ، " ودرسوا ما فيه " ، قرأوا ما فيه ، فهم ذاكرون لذلك ، ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة ، ودرس الكتاب : قراءته وتدبره مرةً بعد أخرى ، " والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
169. " فخلف من بعدهم " من بعد المذكورين. " خلف " بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع . وقيل جمع وهو شائع في " ورثوا الكتاب " والتوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها. " يأخذون عرض هذا الأدنى " حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحرف الكلم ، والجملة حال من الواو . " ويقولون سيغفر لنا " لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون . " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " حال من الضمير في " لنا " أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه . " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " أي في الكتاب . " أن لا يقولوا على الله إلا الحق " عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب . " ودرسوا ما فيه " عطف على "ألم يؤخذ" من حيث المعنى فإنه تقرير .، أو على " ورثوا " وهو اعتراض " والدار الآخرة خير للذين يتقون " مما يأخذ هؤلاء . " أفلا تعقلون " فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين .
169. And a generation hath succeeded them who inherited the Scriptures. They grasp the goods of this low life (as the price of evil doing) and say: It will be forgiven us. And if there came to them (again) the offer of the like, they would accept it (and would sin again). Hath not the covenant of the Scripture been taken on their behalf that they should not speak aught concerning Allah save the truth? And they have studied that which is therein. And the abode of the Hereafter is better, for those who ward off (evil). Have ye then no sense?
169 - After them succeeded an (evil) generation: they inherited the book, but they chose (for themselves) the vanities of this world, saying (for excuse): (everything) will be forgiven us. (even so), if similar vanities came their way, they would (again) seize them. was not the covenant of the book taken from them, that they would not ascribe to God anything but the truth? and they study what is in the book. but best for the righteous in the home in the hereafter. will ye not understand?