19 - (لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزَفون) بفتح الزاي وكسرها ، من نزف الشارب وأنزف أي لايحصل لهم منها صداع ولا ذهاب عقل بخلاف خمر الدنيا
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن سلمة بن نبيط عن الضحاك مثله .
وقوله " لا يصدعون عنها " يقول : لا تصدع رؤسهم عن شربها فتسكر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا شريك عن سالم عن سعيد قوله " لا يصدعون عنها " قال : لا تصدع رؤسهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " لا يصدعون عنها " ليس لها وجع رأس ,
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال عن قتادة " لا يصدعون عنها " قال: لا تصدع رؤسهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن منصور عن مجاهد " لا يصدعون عنها " يقول لا تصدع رؤسهم .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " لا يصدعون عنها " يعني :وجع الرأس .
وقوله " ولا ينزفون " اختلف القراء في قراءته فقرأت عامة قراء المدينة والبصرة " ينزفون " لفتح الزاي ووجهوا ذلك إلى أنه لا تنزف عقولهم وقرأته عامة قراء الكوفة " ولا ينزفون " بكسر الزاي بمعنى : ولا ينفذ شرابهم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيها الصواب .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القراء فيه وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في ذلك وبينا الصواب من القول فيه في سورة الصافات فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع غير أنا يتذكر قول بعضهم في هذا الموضع لئلا يظن ظان أن معناه في هذا الموضع مخالف معناه هنالك
ذكر من قال منهم : معناه لا تنزف عقولهم .
حدثنا إسماعيل بن موسى قال : أخبرنا شريك عن سالم عن سيعد " ولا ينزفون " قال : لا تنزف عقولهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن منصور عن مجاهد " ولا ينزفون " قال : لا تنزف عقولهم .
وحدثنا ابن حميد مرة أخرى فقال : ولا تذهب عقولهم .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله " ولا ينزفون " لا تنزف عقولهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ثنا سعيد عن قتادة في قوله " ولا ينزفون " قال : لا يغلب أحد على عقله .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يزيد قال: ثنا سعيد في قوله " ولا ينزفون " قالا : لا يغلب أحد على عقله .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال عن قتادة في قول الله " ولا ينزفون " قال : لا تغلب على عقولهم .
قوله تعالى : " لا يصدعون عنها " أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها ، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا . " ولا ينزفون " تقدم في (( والصافات )) أي لا يسكرون فتذهب عقولهم . وقرأ مجاهد : " لا يصدعون " بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون ، كقوله تعالى : " يومئذ يصدعون " . وقرأ أهل الكوفة (( ينزفون )) بكسر الزاي ، أي لا ينفد شرابهم ولا تفنى خمرهم ، ومنه قول الشاعر :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال .
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ثلة أي جماعة من الأولين وقليل من الاخرين, وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والاخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية وبالاخرين هذه الأمة, وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري, رواها عنهما ابن أبي حاتم: وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الاخرون السابقون يوم القيامة" ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد, ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت " ثلة من الأولين * قليل من الآخرين " شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة, بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني" ورواه الإمام أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره.
وقد روي من حديث جابر نحو هذا, ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمارة, حدثنا عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت "إذا وقعت الواقعة" ذكر فيها "ثلة من الأولين وقليل من الاخرين" قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة, ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم إسناداً ومتناً, ولكن في إسناده نظر, وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة, ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر بل هو قول ضعيف, لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن, فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها, اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة, والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح, وهو أن يكون المراد بقوله تعالى:"ثلة من الأولين" أي من صدر هذه الأمة " وقليل من الآخرين " أي من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا عفان, حدثنا عبد الله بن بكر المزني, سمعت الحسن أتى على هذه الاية "والسابقون السابقون * أولئك المقربون" فقال: أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا السري بن يحيى قال: قرأ الحسن " والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين " قال ثلة ممن مضى من هذه الأمة, وحدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الاية " ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين " قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة, فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة, ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها, فيحتمل أن تعم الاية جميع الأمم كل أمة بحسبها, ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" فهذا الحديث, بعد الحكم بصحة إسناده, محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم, كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها, والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني, ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد, فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة" وفي لفظ "حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك" والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم, والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها, ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي لفظ "مع كل ألف سبعون ألفاً ـ وفي آخر ـ مع كل واحد سبعون ألفاً " .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن يزيد الطبراني, حدثنا محمد هو ابن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد, عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض, تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام" وحسن أن يذكر ههنا عند قوله تعالى: " ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين " الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة, أخبرنا أبو عمرو بن مطر, أخبرنا جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي, حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني, حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلمة بن عبد الله الجهني, عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن ابي زمل الجهني رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه "سبحان الله وبحمده أستغفر الله إن الله كان تواباً" سبعين مرة ثم يقول: "سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة" ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس بوجهه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول "هل رأى أحد منكم شيئاً ؟" قال ابو زمل: فقلت أنا يا رسول الله, فقال "خير تلقاه, وشر توقاه, وخير لنا, وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك" فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب والناس على الجادة منطلقين, فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله, يرف رفيفاً يقطر ماؤه فيه من أنواع الكلأ, قال وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فلم يظلموه يميناً ولا شمالاً, قال فكأني أنظر إليهم منطلقين, ثم جاءت الرعلة الثانية, وهم أكثر منهم أضعافاً فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فمنهم المرتع ومنهم الاخذ الضغث, ومضوا على ذلك, قال ثم قدم عظم الناس, فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل, كأني أنظر إليهم يميلون يميناً وشمالاً, فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج, فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة, وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيقرع الرجال طولاً, وإذا عن يسارك رجل ربع باز كثير خيلان الوجه, كأنما حمم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراماً له, وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقاً ووجهاً كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف, وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب, فذاك ما حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه, وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغدارة عيشها, مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا, ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافاً, فمنهم المرتع ومنهم الاخذ الضغث ونجوا على ذلك, ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يميناً وشمالاً فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة, فلن تزال عليها حتى تلقاني, وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة, أنا في آخرها ألفاً, وأما الرجل الذي رأيت على يميني الادم الشثل فذلك موسى عليه السلام, إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه, والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء, فذلك عيسى بن مريم نكرمه لإكرام الله إياه, وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقاً ووجهاً فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به, وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي "قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعاً.
وقوله تعالى: "على سرر موضونة" قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره, وقال السدي: مرمولة بالذهب واللؤلؤ, وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت, وقال ابن جرير: ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها, وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور, وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللالىء.
وقوله تعالى: "متكئين عليها متقابلين" أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد "يطوف عليهم ولدان مخلدون" أي مخلدون على صفة واحدة لا يتكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون "بأكواب وأباريق وكأس من معين" أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان, والأباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات, والجميع من خمر من عين جارية معين, ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة. وقوله تعالى: "لا يصدعون عنها ولا ينزفون" أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم, بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة, وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر, والصداع, والقيء, والبول, فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال. وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي "لا يصدعون عنها" يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله: "ولا ينزفون" أي لا تذهب بعقولهم.
وقوله تعالى: "وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون" أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار, وهذه الاية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها, ويدل على ذلك حديث عكراش بن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده, حدثنا العباس بن الوليد الترسي, حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية, حدثنا عبيد الله بن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: بعثني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال "من الرجل ؟" قلت: عكراش بن ذؤيب, قال "ارفع في النسب" فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هذه إبل قومي هذه صدقات قومي" ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها, ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال: "هل من طعام ؟" فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر, فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال: يا عكراش, كل من موضع واحد فإنه طعام واحد. ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب شك عبيد الله رطباً كان أوتمراً, فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: يا عكراش, كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد. ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثاً ثم قال: "يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار".
وهكذا رواه الترمذي مطولاً وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل به, وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا شيبان, قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة, حدثنا ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا, فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه, فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه, فأتته أمرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة, فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة, فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم, فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ, قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر, فأتوا بصفحة من ذهب فيها بسر, فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا, وأكلت معهم فأتى البشير من تلك السرية, فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة, فقال قصي رؤياك, فقصتها وجعلت تقول فجيء بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى, قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى, حدثنا علي بن المديني, حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى" وقوله تعالى:"ولحم طير مما يشتهون" قال الإمام أحمد: حدثنا سيار بن حاتم, حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي, حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة" فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة, فقال "آكلها أنعم منها ـ قالها ثلاثاً ـ وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها" انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن علي الحيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد, عن زرعة عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى ؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال "طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله كأمثال البخت" فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هناك لطيراً ناعماً ؟ قال "أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى" وقال قتادة في قوله تعالى: "ولحم طير مما يشتهون" وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون, قال "من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى, حدثنا معن بن عيسى, حدثني ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: "نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر" فقال عمر: إنها لناعمة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آكلها أنعم منها" وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس, وقال حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة لطيراً فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض, فيخرج من كل ريشة يعني لوناً أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد, ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير" هذا حديث غريب جداً والرصافي وشيخه ضعيفان, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت يأكل من ثمرات الجنة ويشرب من أنهار الجنة, فيصطففن له فإذا اشتهى منها شيئاً أتى حتى يقع بين يديه, فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء, صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً".
وقوله تعالى: " وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون " قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين! وقراءة الجر تحتمل معنيين: أحدهما أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله كقوله تعالى: " يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين " كما قال تعالى: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" وكما قال تعالى: "عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق" والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين, ولكن يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضاً, بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين, والله أعلم. وقوله تعالى: "كأمثال اللؤلؤ المكنون" أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة الصافات "كأنهن بيض مكنون" وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضاً, ولهذا قال: "جزاء بما كانوا يعملون" أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما " أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لاغياً أي عبثاً خالياً من المعنى أو مشتملاً على معنى حقير أو ضعيف كما قال "لا تسمع فيها لاغية" أي كلمة لا غية "ولا تأثيماً" أي ولا كلاماً فيه قبح "إلا قيلا سلاماً سلاماً" أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى: "تحيتهم فيها سلام" وكلامهم أيضاً سالم من اللغو والإثم.
19- "لا يصدعون عنها" أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها كما تتصدع من شرب خمر الدنيا. والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، وقيل معنى لا يصدعون لا يتفرقون كما يتفرق الشراب، ويقوي هذا المعنى قراءة مجاهد "يصدعون" بفتح الياء وتشديد الصاد، والأصل يتصدعون: أي يتفرقون، والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم، أو في محل نصب على الحال، وجملة "ولا ينزفون" معطوفة على الجملة التي قبلها، وقد تقدم اختلاف القراء في هذا الحرف من سورة الصافات، وكذلك تقدم تفسيره: أي لا يسكرون فتذهب عقولهم، من أنزف الشارب: إذا نفد عقله أو شرابه، ومنه قول الشاعر:
لعمرى لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
19- "لا يصدعون عنها"، لا تصدع رؤوسهم من شربها، "ولا ينزفون"، أي لا يسكرون هذا إذا قرئ بفتح الزاي، ومن كسر فمعناه لا ينفد شرابهم.
19-" لا يصدعون عنها " بخمار . " ولا ينزفون " ولا ينزف عقولهم ، أو لا ينفد شرابهم . وقرأ الكوفيون بكسر الزاي " لا يصدعون " بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون .
19. Wherefrom they get no aching of the head nor any madness,
19 - No after ache will they receive therefrom, nor will they suffer intoxication: