23 - (ولا تنفع الشفاعة عنده) تعالى رد لقولهم إن آلهتهم تشفع عنده (إلا لمن أذن) بفتح الهمزة وضمها (له) فيها (حتى إذا فزع) بالبناء للفاعل والمفعول (عن قلوبهم) كشف عنها الفزع بالاذن فيها (قالوا) قال بعضهم لبعض استبشارا (ماذا قال ربكم) فيها (قالوا) القول (الحق) أي قد أذن فيها (وهو العلي) فوق خلقه بالقهر (الكبير) العظيم
يقول تعالى ذكره: ولا تنفع شفاعة شافع كائناً من كان الشافع لمن شفع له، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة، يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحداً إلا لمن أذن الله في الشفاعة له، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعماً منكم أنكم تعبدونه، ليقربكم إلى الله زلفى، وليشفع لكم عند ربكم، ( فمن) إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله " إلا لمن أذن له ": المشفوع له.
واختلفت القراء في قراءة قوله ( أذن له) فقرأ ذلك عامة القراء بضم الألف من ( أذن له) على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأه بعض الكوفيين " أذن له " على اختلاف أيضاً عنه فيه، بمعنى أذن الله له.
وقوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " يقول: حتى إذا جلي عن قلوبهم، وكشف عنها الفزع وذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " يعني: جلي.
حدثي محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال: كشف عنها الغطاء يوم القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: إذا جلي عن قلوبهم.
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة من هم، وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم. فقال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم الملائكة، قالوا: وإنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي ، قال: قال ابن مسعود في هذه الآية " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش سمع من دونه من الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا، فيغشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادوا " ماذا قال ربكم " قال: فيقول: من شاء، قال: الحق، وهو العلي الكبير.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن عامر، عن مسروق، قال: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا، قال: فيغشى عليهم، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: من شاء الله الحق، وهو العلي الكبير.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، أنه قال: إذا حدث أمر عندي ذي العرش، ثم ذكر نحوه معناه إلا أنه قال: فيغشى عليهم من الفزع، حتى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا: ماذا قال ربكم؟.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود، في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال: إن الوحي إذا ألقي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، قال: فيتنادون في السماوات، ماذا قال ربكم؟ قال: فيتنادون الحق، وهو العلي الكبير.
وبه عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: " ينزل الأمر من عند رب العزة إلى السماء الدنيا، فيفزع أهل السماء الدنيا، حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق، وهو العلي الكبير، فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " ... الآية ".
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، قال: ثنا أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا قضى أمراً في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعاً، ولقوله صوت كصوت السلسلة على الصفا الصفوان، فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن هشام بن عروة، قال: " قال الحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتي أحياناً في مثل صورة الرجل، فيكلمني به كلاماً، وهو أهون علي ".
حدثني زكريا بن أبان المصري، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن ابي زكريا، عن جابر بن حيوة، عن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله ".
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " ... الآية. قال: كان ابن عباس يقول: " إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد، دعا جبريل، فلما تكلم ربنا بالوحي، كان صوته كصوت الحديد على الصفا، فلما سمع أهل السماوات صوت الحديد خروا سجداً، فلما أتى عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رءوسهم، فقالوا " ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " وهذا قول الملائكة ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " ... إلى " وهو العلي الكبير " قال: لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة، فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقاً، وأنه منجز ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خرواً سجداً، فلما رفعوا رءوسهم " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناس " قل من يرزقكم من السماوات " .. إلى قوله " في ضلال مبين ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عبد الله بن القاسم، في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " ... الآية، قال: الوحي ينزل من السماء، فإذا قضاه " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال: إن الوحي إذا قضي في زوايت السماء، قال: مثل وقع الفولاذ على الصخرة، قال: فيشفقون، لا يدرون ما حدث، فيفزعون، فإذا مرت بهم الرسل " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ".
وقال آخرون ممن قال: الموصوفون بذلك الملائكة: إنما يفزع عن قلوبهم فزعهم من قضاء الله الذي يقضيه حذراً أن يكون ذلك قيام الساعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم " ... الآية، قال: يوحي الله إلى جبرائيل، فتفرق الملائكة، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة، فإذا جلي عن قلوبهم، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ".
وقال آخرون: بل ذلك من فعل ملائكة السماوات إذا مرت بها المعقبات فزعاً أن يكون حدث أمر الساعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " ... الآية، زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فخروا سجداً، وهكذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف ربهمز
وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون، قالوا: وإنما يفزع الشيطان عن قلوبهم، قال: وإنما يقولون: ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم، وما كان يضلهم " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " قال: وهذا في بني آدم، وهذا عند الموت أقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود، لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: لا تنفع الشفاعة عنده، إلا لمن أذن له أن يشفع عنده، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه، حتى إذا فزع عن قلوبهم، فجلي عنها، وكشف الفزع عنهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: الحق، " وهو العلي " على كل شيء " الكبير " الذي لا شيء دونه. والعرب تستعمل فزع في معنيين، فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يفزع منها: هو مفزع، وتقول للجبان الذي يفزع من كل شيء: إنه لمفزع، وكذلك تقول للرجل الذي يقضي له الناس في الأمور بالغلبة على من نازله فيها: هو مغلب، وإذا أريد به هذا المعنى كان غالباً، وتقول للرجل أيضاً الذي هو مغلوب أبداً: مغلب.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الأمصار أجمعون " فزع " بالزاي والعين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله في ذلك. وروي عن الحسن أنه قرأ ذلك ( حتى إذا فرغ عن قلوبهم) بالراء والغين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد. وقد يحتمل توجيه معنى قراءة الحسن ذلك كذلك، إلى ( حتى إذا فرغ عن قلوبهم) فصارت فارغة من الفزع الذي كان حل بها. وذكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك ( فزع) بمعنى: كشف الله الفزع عنها.
والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاي والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل عليها، ولصحة الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييدها، والدلالة على صحتها.
قوله تعالى: "ولا تنفع الشفاعة" أي شفاعة الملائكة وغيرهم. "عنده" أي عند الله. "إلا لمن أذن له" قراءة العامة أذن بفتح الهمزة لذكر الله تعالى أولاً. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أذن بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. ومن يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. "حتى إذا فزع عن قلوبهم" قال ابن عباس: خفي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله كما قال: "وهم من خشيته مشفقون" (الأنبياء: 28). والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: "ماذا قال ربكم " أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: " قالوا الحق " وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. "وهو العلي الكبير" فله أن يحكم في عباده بما يريد. ثم يجوز أن يكون هذا إذناً لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي الكلام إضمار أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيباً لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل: هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا قضى الله في السماء أمراً ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله
كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير قال والشياطين بعضهم فوق بعض " قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أورعدة شديدة خوفاً من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله تعالى ". وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: "حتى إذا فزع عن قلوبهم" قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناسن يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيراً، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار قال: فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال: من هاهنا جاء الحدث فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعاً مختصراً في سورة الحجر، ومعنى القول أيضاً في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة الجن بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة. وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ماذا قاد ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمداً عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجداً ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد: في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق. وقراءة العامة فزغ عن قلوبهم . وقرأ ابن عباس فزع عن قلوبهم مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى. والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرأ الحسن: فزع مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضاً وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى فرغ لما بالراء والغين المعجمة والتخفيف غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضاً وقتادة. وعنهما أيضاً فرغ لما بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول على هذه القراءة. وعن الحسن أيضاً فرغ بالتشديد.
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد, الذي لا نظير له ولا شريك له, بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض, فقال: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله" أي من الالهة التي عبدت من دونه " لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض " كما قال تبارك وتعالى: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " وقوله تعالى: " وما لهم فيهما من شرك " أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة "وما له منهم من ظهير" أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور, بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه, قال قتادة في قوله عز وجل: " وما له منهم من ظهير " من عون يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له" أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة, كما قال عز وجل: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" وقال جل وعلا: "وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى" وقال تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون" ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: "فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الان, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع" الحديث بتمامه.
وقوله تعالى: "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق" وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة, وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه, أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي, قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما "حتى إذا فزع عن قلوبهم" أي زال الفزع عنها, قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم و أبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل: "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق" يقول: خلى عن قلوبهم, وقرأ بعض السلف, وجاء مرفوعاً إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم, حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا, ولهذا قال تعالى: "قالوا الحق" أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان "وهو العلي الكبير".
وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: "حتى إذا فزع عن قلوبهم" يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا: ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا, قال ابن أبي نجيح عن مجاهد "حتى إذا فزع عن قلوبهم" كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن "حتى إذا فزع عن قلوبهم" يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " حتى إذا فزع عن قلوبهم " يعني ما فيها من الشك قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم "قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير" قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت, أقروا حين لا ينفعهم الإقرار, وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة, وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والاثار, ولنذكر منها طرفاً يدل على غيره.
قال البخاري عند تفسير هذه الاية الكريمة في صحيحه, حدثنا الحميدي , حدثنا سفيان , حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها, ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا, كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر , أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه, قال عبد الرزاق : من الأنصار, فرمي بنجم فاستنار, فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية, قال: نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته, ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش, ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا, ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش, فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم, ويخبر أهل كل سماء سماء, حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون, فما جاؤوا به على وجهه فهو حق, ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون" هكذا رواه الإمام أحمد , وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله , أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم, وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به, ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي , عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه, والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي , والسياق لمحمد بن عوف , قالا: حدثنا نعيم بن حماد , حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي, فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً, فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام, فيكلمه الله من وحيه بما أراد, فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة, كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير, فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل, فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض" وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه الله, وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن قتادة أنهما فسرا هذه الاية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام, ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الاية.
23- "ولا تنفع الشفاعة عنده" أي شفاعة من يشفع عنده من الملائكة وغيرهم، وقوله: "إلا لمن أذن له" استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له: أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم، لا من عداهم من غير المستحقين لها، واللام في لمن يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة. قال أبو البقاء: كما تقول شفعت له، ويجوز أن تتعلق بتنفع، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا. قيل والمراد بقوله: "لا تنفع الشفاعة" أنها لا توجد أصلاً إلا لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها. قرأ الجمهور "أذن" بفتح الهمزة: أي أذن له الله سبحانه، لأن اسمه سبحجانه مذكور قبل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضمها على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه": وقوله: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع فهم فقال: "حتى إذا فزع عن قلوبهم" قرأ الجمهور "فزع" مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور، وقرأ ابن عامر "فزع" مبيناً للفاعل، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفزيع إزالة الفزع. وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلا أنه خفف الزاي. قال قطرب: معنى فزع عن قلوبهم أخرج ما فيها من الفزع، وهو الخوف. وقال مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة. والمعنى: أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من الله من الملائكة والأنبياء والأصنام، إلا أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها، وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى: "وهم من خشيته مشفقون" فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله، فإذا سري عليهم "قالوا" للملائكة فوقهم، وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن "ماذا قال ربكم" أي ماذا أمر به، فيقولون لهم قال: القول "الحق" وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم "وهو العلي الكبير" فله أن يحكم في عباده بما يشاء ويفعل ما يريد، وقيل هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب. والمعنى: لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله، دون الجمادات والشياطين، وقيل إن الذين يقولون: ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم، والذين أجابوهم: هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: معنى الآية: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة. قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار. وقرأ ابن عمر وقتادة: فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ. والمعنى: فرغ الله قلوبهم: أي كشف عنها الخوف. وقرأ ابن مسعود افرنقع بعد الفاء راء مهملة ثم نون ثم قاف ثم عين مهملة من الافرنقاع وهو التفرق.
23- "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له"، الله في الشفاعة، قاله تكذيباً لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: "أذن" بضم الهمزة.
"حتى إذا فزع عن قلوبهم"، قرأ ابن عامر، ويعقوب بفتح الفاء والزاي، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي: كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم، فالتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتفريد.
واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة، فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم: إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل. وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم "قالوا: ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير"".
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، قال: أنبأني محمد بن الفضل بن محمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، أخبرنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، أخبرنا نعيم بن حماد، أخبرنا أبو الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي زكريا، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله".
وقال بعضهم إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة.
قال مقاتل والكلبي والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، خمسمائة وخمسين سنة، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال الحق، يعني الوحي، وهو العلي الكبير.
وقال جماعة: الموصوفون بذلك المشركون.
قال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.
23ـ " ولا تنفع الشفاعة عنده " فلا ينفعهم شفاعة أيضاً كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله . " إلا من أذن له " أذن له أن يشفع ، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك ، واللام على الأول كاللام في قولك : الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك : جئتك لزيد ، وقرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بضم الهمزة . " حتى إذا فزع عن قلوبهم " غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظاراً للإذن أي : يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإذن ، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمناً وقرأ ابن عامر و يعقوب " فزع " على البناء للفاعل . وقرئ (( فرغ )) أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني . " قالوا " قال بعضهم لبعض . " ماذا قال ربكم " في الشفاعة . " قالوا الحق " قالوا قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون ، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق . " وهو العلي الكبير " ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه .
23. No intercession availeth with Him save for him whom He permitteth. Yet, when fear is banished from their hearts, they say: What was it that your Lord said? They say: The Truth. And He is the Sublime, the Great.
23 - No intercession can avail in His Presence, except for those for whom He has granted permission. So far (is this the case) that, when terror is removed from their hearts (at the Day of Judgment, then will they say, What is it that your Lord Commanded? they will say, That which is true and just; and He is the Most High, Most Great.