23 - (لابثين) حال مقدرة أي مقدرا لبثهم (فيها أحقابا) دهورا لا نهاية لها جمع حقب بضم أوله
وقوله : " لابثين فيها أحقابا " يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم ، فماكثون فيها أحقاباً .
واختلفت القراء في قراءة قوله " لابثين " فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة : " لابثين " بالألف ، وقرأ عامة قراء الكوفة ( لبثين ) بغير ألف ، وأفصح القراءتين وأصحهما مخرجاً في العربية ، قراءة من قرأ ذلك بالألف ، وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فعل ، فتعملها في شيء ، وتنصبه بها ، لا يكادون أن يقولوا : هذا رجل بخل بماله ، ولا عسر علينا ، ولا هم خصم لنا ، لأن فعل لا يأتي صفة إلا مدحاً أو ذماً ، فلا يعمل المدح والذم في غيره ، وإذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلاً : هو باخل بماله ، وهو طامع فيما عندنا ، فلذلك قلت : إن " لابثين " أصح مخرجاً في العربية وأفصح ، ولم أحل قراءة من قرأ ( لبثين ) وإن كان غيرها أفصح ، لأن العرب ربما أعملت المدح في الأسماء ، وقد ينشد بيت لبيد :
أو مسحل عمل عضادة سمحج بسراتها ندب له وكلوم
فأعمل عمل في عضادة ، ولو كانت عاملاً كانت أفصح ، وينشد أيضاً :
وبالفأس ضراب رؤوس الكرانف
ومنه قول عباس بن مرداس :
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
وأما الأحقاب فجمع حقب ، والحقب : جمع حقبة ، كما قال الشاعر :
عشنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فهذه جمعها حقب ، ومن الأحقاب التي جمعها حقب قول الله " أو أمضي حقبا " [ الكهف : 60 ] فهذا واحد الأحقاب .
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحقب ، فقال بعضهم : مدة ثلاث مئة سنة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى القزاز ، ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا إسحاق بن سويد ، عن بشير بن كعب ، في قوله " لابثين فيها أحقابا " قال : بلغني أن الحقب ثلاث مئة سنة ، كل سنة ثلاث مئة وستون يوماً ، كل يوم ألف سنة .
وقال آخرون : بل مدة الحقب الواحد : ثمانون سنة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : ثنا عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً ، كل شهر ثلاثون يوماً ، كل يوم ألف سنة .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أنه قال : الحقب : ثمانون سنة ، والسنة : ستون وثلاث مئة يوم ، واليوم : ألف سنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس ، قال : الحقب : ثمانون سنة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله " لابثين فيها أحقابا " قال : الحقب : ثمانون سنة ، السنة : ثلاث مئة وستون يوماً ، اليوم : سنة أو ألف سنة الطبري يشك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله " لابثين فيها أحقابا " وهو ما لا انقطاع له ، كلما مضى حقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله " أحقابا " قال : بلغنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس " لابثين فيها أحقابا " لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحقب الواحد : ثمانون سنة ، والسنة : ثلاث مئة وستون يوماً كل يوم من ذلك ألف سنة .
وقال آخرون : الحقب الواحد : سبعون ألف سنة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير عن سالم قال : سمعت الحسن يسأل عن قول الله " لابثين فيها أحقابا " قال : أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ولكن ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة ، كل يوم من تلك الأيام السبعين ألفاً ، كألف سنة مما تعدون .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن في قوله " لابثين فيها أحقابا " قال : أما الأحقاب ، فلا يدري أحد ما هي ، وأما الحقب الواحد : فسبعون ألف سنة ، كل يوم كألف سنة .
وروي عن خالد بن معدان في هذه الآية ، أنها في أهل القبلة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جشب ، عن خالد بن معدان في قوله " لابثين فيها أحقابا " ، وقوله " إلا ما شاء الله " إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة .
فإن قال قائل : فما أنت قائل في هذا الحديث ؟ قيل : إن الذي قاله قتادة عن الربيع بن أنس ، في ذلك أصح .
فإن قلنا : فما للكفار عند الله عذاب إلا أحقاباً ، قيل : إن الربيع و قتادة قد قالا : إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : لابثين فيها أحقاباً ، في هذا النوع من العذاب هوأنهم " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا " فإذا انقضت تلك الأحقاب ، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك ، كما قال جل ثناؤه في كتابه " وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج " [ ص : 55 - 58 ] وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية .
وقد روي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما :
حدثني محمدبن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت أبا معاذ الخراساني ، عن قول الله " لابثين فيها أحقابا " فأخبرنا عن مقاتل بن حيان ، قال : منسوخة ، نسختها " فلن نزيدكم إلا عذابا " [ النبأ : 30 ] ، ولا معنى لهذا القول ، لأن قوله " لابثين فيها أحقابا " خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي .
قوله تعالى:" لابثين فيها أحقابا" أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة، والجمع حقب، قال متمم بن نويرة التميمي:
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية، لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام، لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب، ولهذا قال: " لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا" . و((لابثين)) اسم فاعل من لبث، ويقويه ان المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي ((لبثين)) بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان، يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفاره. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فتشبه بما هو خلقه في الإنسان نحو حذر وفرق، لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقه في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث. والحقب:" ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروى ابن عمر هذا مرفوعاً الى النبي صلى الله عليه وسلم". وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضاً: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل:
إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعاً. بشير بن كعب: ثلثمائة سنة. الحسن : الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. و"عن أبي أمامة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة))" ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود. و"قال ابن عمر رضي الله عنه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقاباً، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحدهم على أنه يخرج من النار))". ذكره الثعلبي. القرظي: الأحقاب : ثلاثة وأربعون حقباً كل حقب سبعون خريفاً، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة.
قلت : هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وإنما المعنى - و الله أعلم- ما ذكرناه أولاً، أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى " لابثين فيها أحقابا" لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبداً. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى:" فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا". يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل.
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل كما قال تعالى: "وما نؤخره إلا لأجل معدود" "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً" قال مجاهد : زمراً زمراً, قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها, وكقوله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " وقال البخاري "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً" حدثنا محمد , حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون قالوا: أربعون يوماً ؟ قال أبيت قالوا: أربعون شهراً ؟ قال أبيت قالوا: أربعون سنة ؟ قال أبيت قال :ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة".
"وفتحت السماء فكانت أبواباً" أي طرقاً ومسالك لنزول الملائكة "وسيرت الجبال فكانت سراباً" كقوله تعالى: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" وكقوله تعالى: "وتكون الجبال كالعهن المنفوش" وقال ههنا: "فكانت سراباً" أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء وبعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولا أثر, كما قال تعالى: "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً * لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً", وقال تعالى: "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة" وقوله تعالى: "إن جهنم كانت مرصاداً" أي مرصدة معدة "للطاغين" وهم المردة العصاة المخالفون للرسل "مآباً" أي مرجعاً ومنقلباً ومصيراً ونزلاً. وقال الحسن وقتادة في قوله تعالى: "إن جهنم كانت مرصاداً" يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس, وقال سفيان الثوري : عليها ثلاث قناطر.
وقوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " أي ماكثين فيها أحقاباً وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان, وقد اختلفوا في مقداره فقال ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟ قال: نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة, وهكذا روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك , وعن الحسن والسدي أيضاً سبعون سنة كذلك, وعن عبد الله بن عمرو : الحقب أربعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون,رواهما ابن أبي حاتم .
وقال بشير بن كعب : ذكر لي أن الحقب الواحد ثلثمائة سنة, كل سنة اثنا عشر شهراً, كل سنة ثلثمائة وستون يوماً كل يوم منها كألف سنة, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم , ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن علي بن أبي بكر الأسفيدي , حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " قال: فالحقب شهر, الشهر ثلاثون يوماً والسنة اثنا عشر شهراً, والسنة ثلثمائة وستون يوما, كل يوم منها ألف سنة مما تعدون, فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة, وهذا حديث منكر جداً, والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك. وقال البزار : حدثنا محمد بن مرداس , حدثنا سليمان بن مسلم أبو العلاء قال: سألت سليمان التيمي : هل يخرج من النار أحد ؟ فقال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقاباً قال: والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً مما تعدون" , ثم قال: سليمان بن مسلم بصري مشهور, وقال السدي " لابثين فيها أحقابا " سبعمائة حقب, كل حقب سبعون سنة, كل سنة ثلثمائة وستون يوماً, كل يوم كألف سنة مما تعدون, وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً".
وقال خالد بن معدان : هذه الاية وقوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" في أهل التوحيد رواهما ابن جرير ثم قال: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: "لابثين فيها أحقاباً" متعلقاً بقوله تعالى: "لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً" ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذاباً من شكل آخر ونوع آخر ثم قال: والصحيح أنها لا انقضاء لها كما قال قتادة والربيع بن أنس , وقد قال قبل ذلك: حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي , حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى: "لابثين فيها أحقاباً" قال: أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار, ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون, وقال سعيد عن قتادة : قال الله تعالى: "لابثين فيها أحقاباً" وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده. وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة وقال الربيع بن أنس " لابثين فيها أحقابا " لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله عز وجل, وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة, والسنة ثلثمائة وستون يوماً, وكل يوم كألف سنة مما تعدون, رواهما أيضاً ابن جرير .
وقوله تعالى: "لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً" أي لا يجدون في جهنم برداً لقلوبهم ولا شراباً طيباً يتغذون به ولهذا قال تعالى: "إلا حميماً وغساقاً" قال أبو العالية : استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق, وكذا قال الربيع بن أنس , فأما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموه والغساق هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه, وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة ص بما أغنى عن إعادته ـ أجارنا الله من ذلك بمنه وكرمه ـ قال ابن جرير وقيل المراد بقوله: "لا يذوقون فيها برداً" يعني النوم كما قال الكندي :
بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن قبلاتها البرد
يعني بالبرد النعاس والنوم. هكذا ذكره ولم يعزه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن مرة الطيب ونقله عن مجاهد أيضاً. وحكاه البغوي عن أبي عبيدة والكسائي أيضاً. وقوله تعالى: "جزاء وفاقاً" أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا, قاله مجاهد وقتادة وغير واحد. ثم قال تعالى: "إنهم كانوا لا يرجون حساباً" أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم داراً يجازون فيها ويحاسبون "وكذبوا بآياتنا كذاباً" أي وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله, فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة. وقوله: "كذاباً" أي تكذيباً, وهو مصدر من غير الفعل, قالوا: وقد سمع أعرابي يستفتي الفراء على المروة: الحلق أحب إليك أو القصار ؟ وأنشد بعضهم:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قصارها من شفائيا
وقوله تعالى: " وكل شيء أحصيناه كتابا " أي وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر, وقوله تعالى: "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً" أي يقال لأهل النار: ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا عذاباً من جنسه وآخر من شكله أزواج, قال قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الاية "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً" قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري , حدثنا خالد بن عبد الرحمن , حدثنا جسر بن فرقد عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً" قال: أهلك القوم بمعاصيهم الله عز وجل" جسر بن فرقد ضعيف الحديث بالكلية.
وانتصاب 23- "لابثين فيها" على الحال المقدرة من الضمير المستكن في الظاغين. قرأ الجمهور "لابثين" بالألف. وقرأ حمزة والكسائي " لابثين " بدون ألف، وانتصاب "أحقابا" على الظرفية: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، وكلما مضى حقب جاء حقب، وهي جمع حقب بضمتين، وهو الدهر، والأحقاب الدهور، والحقب بضم الحاء وسكون القاف، قيل هو ثمانون سنة، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة، السنة ثلثمائة وستون يوماً، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب. وقال السدي: الحقب سبعون سنة. وقال بشير بن كعب: ثلثمائة سنة. وقال ابن عمر: أربعون سنة، وقيل ثلاثون ألف سنة. قال الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة. وقيل الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار، والأولى ما ذكرناه أولاً من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد. وحكى الواحدي: عن الحسن أنه قال: والله ما هي إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر، ثم كذلك إلى الأبد.
23- "لابثين"، قرأ حمزة ويعقوب: لبثين بغير ألف، وقرأ العامة: "لابثين" بالألف وهما لغتان. "فيها أحقاباً"، جمع حقب، والحقب الواحد: ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة. روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال مجاهد: الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً كل حقب سبعون خريفاً، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة.
قال الحسن: إن الله لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: "لابثين فيها أحقابا" فوالله ما هو إلا إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود.
روى السدي عن مرة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا.
وقال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها "فلن نزيدكم إلا عذاباً" يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل.
23-" لابثين فيها " وقرأ حمزة و روح لبثين وهو أبلغ " أحقاباً " دهوراً متتابعة ، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة ، فليس فيه ما يتقضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر ، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطق الدال على خلود الكفار ، ولو جعل قوله :
23. They will abide therein for ages.
23 - They will dwell therein for ages.