(أو) رأيت (كالذي) الكاف زائدة (مر على قرية) هي بيت المقدس راكبا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير وهو عزير (وهي خاوية) ساقطة (على عروشها) سقوطها لما خربها بُخْتُنَصَّر (قال أنى) كيف (يحيي هذه الله بعد موتها) استعظاماً لقدرته تعالى (فأماته الله) وألبثه (مائة عام ثم بعثه) أحياه ليريه كيفية ذلك (قال) تعالى له (كم لبثت) مكثت هنا (قال لبثت يوماً أو بعض يوم) لأنه نام أول النهار فقبض وأُحيي عند الغروب فظن أنه يوم النوم (قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك) التين (وشرابك) العصير (لم يتسنَّه) لم يتغير مع طول الزمان ، والهاء قيل أصل من سانهت وقيل للسكت من سانيت وفي قراءة بحذفها (وانظر إلى حمارك) كيف هو فرآه ميتا وعظامه بيض تلوح! فعلنا ذلك لتعلم (ولنجعلك آية) على البعث (للناس وانظر إلى العظام) من حمارك (كيف نُنشزها) نحييها بضم النون وقرئ بفتحها من أنشز ونشز لغتان وفي قراءة {ننشرها} بالراء نحركها ونرفعها (ثم نكسوها لحماً) فنظر إليها وقد تركبت وكسيت لحما ونفخ فيه الروح ونهق (فلما تبين له) ذلك بالمشاهدة (قال أعلم) علم مشاهدة (أن الله على كل شيء قدير) وفي قراءة {اعْلَمْ} أمر من الله له
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "أو كالذي مر على قرية"، نظير الذي عنى بقوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقوله: "أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله: "أو كالذي" على قوله: "إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟، ثم عطف عليه بقوله: "أو كالذي مر على قرية". لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه.
وقد زعم بعض نحوي البصرة أن الكاف في قوله: "أو كالذي مر على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر علي قرية.
وقد بينا فيما مضى قبل أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف أهل التأويل في الذي "مر على قرية وهي خاوية على عروشها".
فقال بعضهم: هو عزير.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، قال: عزير.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو خزيمة قال، سمعت سليمان بن بريدة في قوله: "أو كالذي مر على قرية"، قال: هو عزير.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، قال: ذكر لنا أنه عزير.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة [مثله].
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: "أو كالذي مر على قرية"، قال: قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أن الذي أتى على القرية هو عزير. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، قال: عزير.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أو كالذي مر على قرية"، قال: عزير.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، إنه هو عزير.
حدثني يونس قال، قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير.
وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا، هو الخضر.
حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال: اسم الخضر -فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قال: هو أورميا.
حدثني محمد بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، قال: كان نبياً، وكان اسمه أورميا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد مثله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن [مضر]، قال: يقولون، والله أعلم، إنه أورميا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال -إذ رأى قرية خاوية على عروشها- "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قبله البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيراً وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون. فكان معلوماً بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصباً يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
واختلف أهل التأويل في القرية التي مر عليها القائل: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
فقال بعضهم: هي بيت المقدس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك قالا، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: هي بيت المقدس.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.
حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض المقدسة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: "أو كالذي مر على قرية"، قال: القرية بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "أو كالذي مر على قرية"، قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: قرية كان نزل بها الطاعون، ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ، "فقال لهم الله موتوا"، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، فماتوا ثم أحياهم الله، "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون" [البقرة: 243]. قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه" إلى قوله: "لم يتسنه".
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، كالقول في اسم القائل: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، سواءً لا يختلفان.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وهي خاوية"، وهي خالية من أهلها وسكانها.
يقال من ذلك: خوت الدار تخوي خواءً وخوياً، وقد يقال للقرية: خويت، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نفساء، فإنه يقال: خويت تخوى خوىً منقوصاً، وقد يقال فيها: خوت تخوي، كما يقال في الدار. وكذلك: خوي الجوف يخوى خوىً شديداً، ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار، وفي الدار ما قيل في الجوف، كان صواباً، غير أن الفصيح ما ذكرت.
وأما العروش، فإنها الأبنية والبيوت واحدها عرش، وجمع قليله أعرش. وكل بناء فإنه: عرش. ويقال: عرش فلان داراً يعرش ويعرش عرشاً، ومنه قول الله تعالى ذكره: "وما كانوا يعرشون" [الأعراف: 137]، يعني يبنون، ومنه قيل: عريش مكة، يعنى به: خيامها وأبنيتها.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "خاوية"، خراب، قال ابن جريج: بلغنا أن عزيراً خرج فوقف على بيت المقدس وقد خربه بخت نصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتلة والمال ما كان!! فحزن.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وهي خاوية على عروشها"، قال: هي خراب.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وهي خاوية على عروشها"، يقول: ساقطة على سقفها.
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذكر لنا: أن قائله لما مر ببيت المقدس، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مر به، خراباً بعد ما عهده عامراً قال: أنى يحيي هذه الله بعد خرابها؟.
وقال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكا في قدرة الله على إحيائه، فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه، أحيى ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه.
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامراً بأهله وسكانه، ثم رآه خاوياً على عروشه قد باد أهله، وشتتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها، قال: على أي وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها، استنكاراً -فيما قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إداوته وفي طعامه، ثم عرفه قدرته على ذلك وعلى غيره، بإظهاره على إحيائه ما كان عجباً عنده في قدرة الله إحياؤه رأي عينه حتى أبصره ببصره. فلما رأى ذلك قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
وكان سبب قيله ذلك، كالذي:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبياً إلى بني إسرائيل: يا أرميا، من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم اجتبيتك. فبعث الله تعالى ذكره أرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبينه. قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب. فأوحى الله إلى أورميا: أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم، وعرفهم أحداثهم، ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني إسرائيل، قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحي ربه، صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقيت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلآ لما هو شر علي! لو أراد بي خيراً ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرع الخضز وبكاءه وكيف يقول، ناداه: أورميا! أشق عليك ما أوحيت إليك؟ قال. نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله: وعزتي العزيزة، لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبداً! ثم أتى ملك بني إسرائيل وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين، لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الأخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها. فقال ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس من الله، وقبل أن يبعث عليكم ملوك لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه! فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه. وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان بن سنحاريب بن دارياس بن مروذ بن فالغ بن عابر، ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي حاجه في ربه، أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله. فخرج في ستمئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس. فلما فصل سائرأً، أتى ملك بني إسرائيل الخبر: أن بخت نصر أقبل هو وجنوده يريدكم. فارسل الملك إلى أرميا فجاءه، فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك؟ فقال أرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله ملكا من عنده فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته، وأمره بالذي يستفتيه فيه. فأقبل الملك إلى أرميا، قد تمثل له رجلا من بني إسرائيل، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري! فأذن له، فقال الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسناً، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطاً لي، فافتني فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! فقال له نبي الله: أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس الى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم، وأفضل من ذلك! فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه! فقام الملك من عنده، فلبث أياماً وقد نزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعاً شديداً، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.
ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك، ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن ما بهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي اللة ولا يحبه الله. فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتد عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسالك بالله- الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم. فقال أرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة من في أرميا، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه فقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا! فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه. فطار أرميا حتى خالط الوحوش.
ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشأم، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه. ثم انصرف راجعاً إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل. وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي. فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلمة. وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وعزاريا، وميشايل، وحنانيا. وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق، فثلثاً أقر بالشام، وثلثاً سبى، وثلثاً قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بخت نصر عنه راجعاً إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له، معه عصير من عنب في زكرة، وسلة تين، حتى أتى إيليا. فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب، دخله شك فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مئة عام، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله، وأمات حماره معه. فاعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى فقال له: "كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه"، يقول: لم يتغير، "وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما"، فنظر إلى حماره ياتصل بعض إلى بعض -وقد كان مات معه- بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير". ثم عمر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان.
حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه قالا، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرض مقام. فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاء جديد فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد، نظر إلى خراب لا يوصف، فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! وسار حتى تبؤ منها منزلاً، فربط حماره بحبل جديد، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه السبات. فلما نام نزع الله روحه مئة عام، فلما مرت من المئة سبعون عاما، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له يوسك، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعقر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت. فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل، ولما يصلحه من أداة العمل. فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمئة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل وما يصلحه من أداة العمل. فسار إليها قهارمته ومعهم ثلثمئة ألف عامل. فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عين أرميا وآخر جسده ميت. فنظر إلى ايليا وما حولها من القرى والمساجد والأنهار، والحروث تعمل وتعقر وتتجدد، حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المئة، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، وقد أتى على ذلك ريح مئة عام، وبرد مئة عام، وحر مئة عام، لم تتغير ولم تنتقض شيئاً، وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحماً جديداً ونشز عظامه وهوينظر، فقال له الله: "انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها": أن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام"، ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة رد الله روحه، وقد عثرت على حالها الأولى، فجعل ينظرإلى العظام كيف تلتأم بعضها إلى بعض، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبأً ولحماً، فلما تبين له ذلك قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير"، فقال الله تعالى ذكره: "انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه"، قال: فكان طعامه تيناً في مكتل، وقلة فيها ماء.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، وذلك أن عزيراً مر جاثياً من الشأم على حمار له معه عصير وعنب وتين. فلما مر بالقرية فرآها، وقف عليها وقتب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ -ليس تكذيباً منه وشكاً- فأماته الله وأمات حماره فهلكا، ومر عليهما مئة سنة. ثم إن الله أحى عزيراً فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومأ أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مئة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير، "لم يتسنه"،الآية.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ثم بعثه"، ثم أثاره حياً من بعد مماته.
وقد دللنا على معنى البعث، فيما مضى قبل.
وأما معنى قوله: "كم لبثت"، فإن كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، وهو في هذا الموضع نصب بـ "لبثت"، وتأويله: قال الله له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حياً؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثت ميتاً إلى أن بعثتني حياً يوماً واحداً أو بعض يوم.
وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزير، أو من كان- ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.
وإنما قال: "لبثت يوما أو بعض يوم"، لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم رد إليه روحه آخر النهار بعد المئة العام، فقيل له: "كم لبثت"؟ قال: "لبثت يوما"، وهو يرى أن الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يوماً، لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار، وسئل عن مقدار لبثه ميتاً آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: "لبثت يوما"، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: "أو بعض يوم"، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" [الصافات: 147]، بمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: "أو بعض يوم"، رجوعاً منه عن قوله: "لبثت يوما".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم"، قال: ذكر لنا أنه مات ضحى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: "لبثت يوما"، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: "أو بعض يوم"، فقال: "بل لبثت مائة عام".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، قال: مر على قرية فتعجب فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، فأماته الله أول النهار، فلبث مئة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: "كم لبثت"؟ قال: "لبثت يوما أو بعض يوم"، قال: "بل لبثت مائة عام".
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال الربيع: أماته الله مئة عام ثم بعثه، قال: "كم لبثت"؟ قال: "لبثت يوما أو بعض يوم"، قال: "بل لبثت مائة عام".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: لما وقف على بيت المقدس وقد خربه بخت نصر، قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مئة عام، فقال: "كم لبثت"؟ قال: "يوما"، فلما رأى الشمس قال: "أو بعض يوم".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه"، لم تغيره السنون التي أتت عليه.
وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء.
وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زقاً من عصير.
وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دن خمر- أو: زكرة خمر.
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
وأما قوله: "لم يتسنه" ففيه وجهان من القراءة:
أحدهما: لم يتسن بحذف الهاء في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في "يتسنه" زائدة صلة، كقوله: "فبهداهم اقتده" [الأنعام: 90]، وجعل تفعلت منه: تسنيت تسنياً، واعتل في ذلك بأن السنة تجمع سنوات، فيكون تفعلت على صحة.
ومن قال في السنة سنينة، فجائز على ذلك، وإن كان قليلا، أن يكون تسنيت تفعلت، بدلت النون ياء لما كثرت النونات، كما قالوا: تظنيت وأصله الظن. وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: "من حمإ مسنون" [الحجر: 26، 28، 33]، وهو المتغير. وذلك أيضاً، إذا كان كذلك، فهو أيضاً مما بدلت نونه ياء.
وهو قراءة عامة قرأة الكوفة.
والآخر منهما: إثبات الهاء في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل الهاء في يتسنه لام الفعل، ويجعلها مجزومة بلم، ويجعل فعلت منه: تسنهت ويفعلو أتسنه تسنهاً، وقال في تصغير السنة سنيهة وسنية، أسنيت عند القوم وأسنهت عندهم، إذا أقمت سنة.
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي قي ذلك إثبات الهاء، في الوصل والوقف، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
ومعنى قوله: "لم يتسنه"، لم تأت عليه السنون فيتغير، على لغة من قال: أسنهت عندكم أسنه، إذا أقام سنة، كما قال الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
فجعل الهاء في السنة، أصلاً، وهي اللغة الفصحى.
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله، في حال وقف أو وصل، لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن اعتل معتل بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هن زوائد على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القرأة حذفهن، وذلك كقوله: "فبهداهم اقتده" [الأنعام: 90]، وقوله: "يا ليتني لم أوت كتابيه" [الحاقة: 25]، فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملاً أن يكون أصلاً للحرف غير زائد، فغير جائز -وهو في مصحف المسلمين مثبت- صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات.
على أن ذلك، وإن كان زوائد فيما لا شك أنه من الزوائد، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد فتنطق به على نحومنطقها به في حال القطع، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف. غير أن ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: "لم يتسنه" حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدة لا شك في زيادتها فيه.
ومما يدل على صحة ما قلنا من أن الهاء في يتسنه، من لغة من قال: قد أسنهت، و المسانهة، ما:-
حدثت به عن القاسم بن سلام قال، حدثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير قال، حدثني هانئ مولى عثمان قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت فقال زيد: سله عن قوله: لم يتسن أو: لم يتسنه، فقال عثمان: اجعلوا فيها هاء.
حدثت عن القاسم، وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار، جميعاً، عن القاسم قال، حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك قال، حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري قال: كنت عند عثمان، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها (لم يتسن) و"فمهل الكافرين" [الطارق: 17]، و"لا تبديل لخلق" [الروم: 30]، قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "لا تبديل لخلق الله" ومحا، "فمهل"، وكتب (فمهل الكافرين)، وكتب "لم يتسنه" ألحق فيها الهاء.
قال أبو جعفر: ولو كان ذلك مر يتسنى أو يتسنن، لما ألحق فيه أبي هاء لا موضع لها فيه، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبي بن كعب.
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لم يتسنه".
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: "لم يتسنه"، لم يتغير.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "لم يتسنه"، لم يتغير.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه"، يقول: "فانظر إلى طعامك" من التين والعنب، "وشرابك" من العصير، "لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمض التين والعنب، ولم يختمر العصير، هما حلوان كما هما. وذلك أنه مر جائياً من الشأم على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فأماته الله وأمات حماره، ومر عليهما مئة سنة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه"، يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مئة عام.
حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك بنحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "لم يتسنه"، لم يتغير.
حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: "لم يتسنه"، لم يتغير.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "لم يتسنه"، لم يتغير في مئة سنة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،أخبرني بكر بن مضر قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا، حين خربها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر، فكان بها. فاوحى الله إليه: أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته الله مئة عام ثم بعثه، فإذا حماره حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سل عنب وسل تين، لم يتغير عن حاله، قال يونس: قال لنا سلم الخواص: كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزق عصير.
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "لم يتسنه"، لم ينتن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "إلى طعامك"، قال: سل تين، "وشرابك"، دن خمر، "لم يتسنه"، يقول: لم ينتن.
قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهداً والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، رأوا أن قوله: "لم يتسنه" من قول الله تعالى ذكره: "من حمإ مسنون" [الحجر:26 ،28، 33]، بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل: تسنن. وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك.
فإن ظن ظان أنه من الأسن من قول القائل: أسن هذا الماء يأسن أسناً، كما قال الله تعالى ذكره: "فيها أنهار من ماء غير آسن" [محمد: 15]، فإن ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن،ولم يكن "يتسنه".
[فإن قيل]: فإنه منه، غير أنه ترك همزه.
قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديد نونه، لأن النون غير مشددة، وهي في "يتسنه" مشددة، ولو نطق من يتأسن بترك الهمزة، لقيل: يتسن بتخفيف نونه بغير هاء تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من الأسن.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وانظر إلى حمارك". فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارك، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحماً. ثم اختلف متأولو ذلك هذا التأويل.
فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقاً سوياً، ثم أراد أن يحيي حماره، تعريفاً منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"؟، مستنكراً إحياء الله إياها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قال: بعثه الله فقال: "كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم" إلى قوله: "ثم نكسوها لحما"، قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعض إلى بعض، وقد كان مات معه، بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح فقام ينهق. ونظر إلى عصيره ولينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيى عزيراً فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم! قال: بل لبثت مئة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً. فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حماراً من عظام ليس له لحم ولا دم، ثم إن الله كسا العظام لحماً ودماً، فقام حماراً من لحم ودم وليس فيه روح، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه، فنهق الحمار،:"أعلم أن الله على كل شيء قدير".
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً، ولنجعلك آية للناس، فيكون في قوله: "وانظر إلى حمارك"، متروك من الكلام استغنى بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: وانظر إلى العظام بدلاً من الهاء المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه- يعني: إلى عظام الحمار.
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقاً سوياً، وقبل أن يحيي حماره.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان هذا رجلاً من بني إسرائيل نفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وصل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم عظام اجتمعي، فإن الله منزل عليك روحاً، فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق، ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر. وكان حماره جذعاً فأحياه كبيراً قد تشنن، فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سل عنب، وشرابه دن خمر. قال ابن جريج عن مجاهد نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسده ميت، فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حل البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
ذكر من قال لك:
حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبدالصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: رد الله روح الحياة في عين أرميا وآخر جسده ميت، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه، ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فأماته الله مائة عام ثم بعثه"، فنظر إلى حماره قائماً قد مكث مئة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مئة عام، "وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما"، فكان أول شيء أحيى الله منه رأسه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يخلق.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "فأماته الله مائة عام ثم بعثه"، فنظر إلى حماره قائماً، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظرإلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض، فلما تبين له قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلى بعض، وبعين نبي الله عليه السلام كان ذلك، فقال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك"، وكان حماره عنده كما هو، "ولنجعلك آية للناس"، "وانظر إلى العظام كيف ننشزها". قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل: انظر! فجعل ينظر إلى العظام يتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن زيد قال: قوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك"، واقفاً عليك منذ مئة سنة، "ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام"، يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا: كيف نحيي هذه؟ قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك، الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه فتلصق به، حتى وصل إلى جمجمته وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما". فلما تبين له ذلك، قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير". قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن مضر قال: يزعمون في بعض الكتب: أن الله أمات أرميا مئة عام ثم بعثه، فإذا حماره حي قائم على رباطه. قال: ورد الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون، والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية"، الآية.
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحماً فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب، قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مر بها بعد مماتها، عياناً من نفسه وطعامه وحماره. فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره، مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مر بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة فى طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية لأن قوله: "وانظر إلى العظام"، إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك، كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً. وقد كان حماره أدركه من البلى، في قول أهل التأويل جميعاً، نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب. فلم يمكن صرف معنى قوله: "وانظر إلى العظام"، إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المامور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه. لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة، وله عبرةً وعظةً.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولنجعلك آية للناس، أمتناك مئة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله: "ولنجعلك آية للناس"، وهو بمعنى كي، لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. ولو لم تكن قبل اللام- أعني لام كي واو، كانت اللام شرطاً للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك لنجعلك آية للناس.
وإنما عنى بقوله: "ولنجعلك آية"، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي وشك في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كله، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مئة عام إلى ولده وولد ولده، شاباً وهم شيوخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان قال: سمعت الأعمش يقول: "ولنجعلك آية للناس"، قال: شاباً وولده شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدم عليه من قومه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبنيت وهلك من كان يعرفه، فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزير منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيراً أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية، حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم.
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "كيف ننشزها"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأه بعضهم: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها"، بضم النون، وبالزاي. وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.
وأصل النشوز الارتفاع، ومنه قيل: قد نشز الغلام، إذا ارتفع طوله وشب. ومنه نشوز المرأة على زوجها. ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: نشز، ونشز، ونشاز، فإذا أردت أنك رفعته قلت: أنشزته إنشازاً، ونشز هو، إذا ارتفع.
فمعنى قوله: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها"- في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الأرض، فنردها إلى أماكنها من الجسد.
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: "كيف ننشزها"، كيف نخرجها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "كيف ننشزها"، قال: نحركها.
وقرأ ذلك آخرون: (وانظر إلى العظام كيف ننشرها) بضم النون. قالوا: من قول القائل، أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشاراً، وذلك قرأه عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحماً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: كيف ننشرها، قال: انظر إليها حين يحييها الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله وانظر إلى العظام كيف ننشرها، قال: كيف نحييها.
واحتج بعض قرأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: "ثم إذا شاء أنشره" [عبس: 22]، فرأى أن من الصواب إلحاق قوله: وانظر إلى العظام كيف ننشرها به.
وقرأ ذلك بعضهم: (وانظر الى العظام كيف ننشرها)، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى: نشر الشيء وطيه. وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول: أنشر الله الموتى، فنشروا هم، بمعنى أحياهم فحيوا هم. ويدل على ذلك قوله: "ثم إذا شاء أنشره" وقوله: "أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون" [الأنبياء: 21]، وعلى أنه إذا أريد به حيي الميت وعاش بعد مماته، قيل: نشر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
حتى يقول الناس مما رأوا: يا عجبا للميت الناشر!
وروي سماعاً من العرب: كان به جرب فنشر، إذا عاد وحيي.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشاز ومعنى الإنشار متقاربان. لأن معنى الإنشاز التركيب والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى الإنشار إعادة الحياة إلى العظام. وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما، وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئاً يقطع العذر ويوجب الحجة. فبأيهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما القضاء بالصواب على الأخرى.
فإن ظن ظان أن الإنشار إذ كان إحياءً، فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر، إنما أمر به ليرى عياناً ما أنكره بقوله: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"؟، [فقد أخطأ]. فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه هو يحيى، لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: "ثم نكسوها لحما". ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، كان معلوماً استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه. ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
وأما القراءة الثالثة، فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: (كيف ننشرها) بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ثم نكسوها"، أي العظام "لحما"، والهاء التي في قوله: "ثم نكسوها لحما"، من ذكر العظام.
ومعنى "نكسوها"، نلبسها ونواريها به، كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطى شيئاً وواراه، لباساً له وكسوة، ومنه قول النابغة الجعدي:
فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
فجعل الإسلام -إذ غطى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كسوةً له وسربالاً.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فلما تبين له"، فلما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، "قال أعلم" الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان، "أن الله على كل شيء قدير".
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: "قال أعلم أن الله".
فقرأه بعضهم: (قال اعلم) على معنى الأمر بوصل الألف من اعلم، وجزم الميم منها، وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله، (قيل اعلم) على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.
حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثني حجاج، عن هارون قال: هي في قراءة عبد الله: (قيل اعلم أن الله) على وجه الأمر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه -أحسبه، شك أبو جعفر الطبري- سمعت ابن عباس يقرأ: (فلما تبين له قال اعلم)، قال: إنما قيل ذلك له.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له انظر! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل: اعلم أن الله على كل شيء قدير.
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبين له ما تبين من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صرف متأول قوله: قال اعلم -وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتص في هذه الآية من قصته، كان وجهاً صحيحاً، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلم أن قد كان كذا وكذا، على وجه الأمر منه لغيره، وهو يعني به نفسه.
وقرأ ذلك آخرون: (قال أعلم)، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف (أعلم) وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له ما تبين من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال: المتبين ذلك: أعلم الآن أنا أن الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قال: لما عاين من قدرة الله ما عاين قال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب منبه يقول: "فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعين نبي الله صلى الله عليه وسلم، يعني إنشاز العظام، فقال: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله حماره-: "أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض، "فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد نحوه.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (اعلم) بوصل الألف وجزم الميم، على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله -الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحماره بعد موت مئة عام وبلائه، حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظه عليه طعامه وشرابه مئة عام حتى رده عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير- على كل شيء قادر كذلك.
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، وحكمنا له بالصواب دون غيره، لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره: قولاً للذي أحياه الله بعد مماته، وخطاباً له به، وذلك قوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك" ... "وانظر إلى العظام كيف ننشزها"، فلما تبين ذلك له جواباً عن مسألته ربه: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، قال الله له: اعلم أن الله، الذى فعل هذه الأشياء على ما رأيت، على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: "رب أرني كيف تحيي الموتى"، "واعلم أن الله عزيز حكيم"، فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها، أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.
قوله تعالى: "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" أو للعطف حملاً على المعنى والتقدير عند الكسائي و الفراء : هل رايت كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية . وقال المبرد : المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، ألم تر من هو ! كالذي مر على قرية . فأضمر في الكلام من هو . وقرأ أبو سفيان بن حسين أو كالذي مر بفتح الواو ، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير . وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها ، من قولهم : قريت الماء أي جمعته ، وقد تقدم . قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب و قتادة و ابن عباس و الربيع و عكرمة و الضحاك الذي مر على القرية هو عزير . وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الله بن بكر بن مضر : هو إرمياء وكان نبياً . وقال ابن إسحاق : إرمياء هو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه . قال ابن عطية : وهذاكما تراه ، إلا أن يكون اسماً وافق اسماً، لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه .
قلت :إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو ، لأن الخضر لم يزل حياً من وقت موسى حتى ألآن على الصحيح في ذلك ، على ما يأتي بيانه في سورة الكهف . وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح ، والله أعلم . وحكى النحاس و مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى . قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه السلام . وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه . والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي . والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه و قتادة و الربيع بن أنس و غيرهم . قال : وكان مقبلاً من مصر وطعامه شرابه المذكوران تين أخضر وعنب وركوة من خمر . وقيل : من عصير . وقيل : قلة ماء هي شرابه . والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان والياً على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد إسبندياد . وحكى النقاش أن قوما قالوا : هي المؤتفكة . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناساً كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل ، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هرقل على شاطىء الدجلة ، فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له ،فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكناً وهي خاوية على عروشها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها . وقيل : إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد . وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله مائة عام . قال : بن عطية : وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها ، والإشارة بـ هذه إنما هي إلى القرية . وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان . وقال وهب بن منبه و قتادة و الضحاك و الربيع و عكرمة : القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي . وفي الحديث الطويل حيث أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ، لأن بختنصر امر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال ، أنى يحيي هذه الله بعد موتها .
والعريش : سقف البيت . وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ، ومنه عريش الدالية ، ومنه قوله تعالى : "ومما يعرشون" . قال السدي : يقول هي ساقطة على سقفها ، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، واختاره الطبري . وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة ، وخاوية معناها خالية ، وأصل الخواء الخلو ، يقال :خوت الدار وخويت تخوى خواء ( ممدود ) وخويا : أقوت ، وكذلك إذا سقطت ، ومنه قوله تعالى : "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" أي خالية ، ويقال ساقطة ، كما قال : "فهي خاوية على عروشها" أي ساقطة على سقفها . والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء . وخوت المرأة وخويت أيضاً خوى أي خلا جوفها عند الولادة . وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام . والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل . وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه ، وكذلك الرجل في سجوده .
قوله تعالى : "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته . وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سال عنه ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها . وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء ! فلذلك ضرب له المثل في نفسه . قال ابن عطية : وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر ،والصواب ألا يتأول في الآية شك .
قوله تعالى : "فأماته الله مائة عام" مائة نصب على الظرف . والعام : السنة ، يقال : سنون عوم وهو تأكيد للأول ، كما يقال : بينهم شغل شاغل . وقال العجاج :
من مر أعوام السنين العوم
وهو في التقدير جمع عائم ، إلا أنه لا يفرد بالذكر ، لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد ، قاله الجوهري . وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك . والعوم كالسبح ، وقال الله تعالى : "كل في فلك يسبحون" . قال ابن عطية : هذا بمعنى قول النقاش ، والعام على هذا كالقول والقال ، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد . وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكاً من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل . وقد قيل : إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيماً يقال له كوشك فعمرها في ثلاثين سنة .
قوله تعالى : "ثم بعثه" معناه أحياه ، وقد تقدم الكلام فيه .
قوله تعالى : "قال كم لبثت" اختلف في القائل له كم لبثت ، فقيل الله جل وعز ، ولم يقل له إن كنت صادقاً كما قال الملائكة على ما تقدم . وقيل : سمع هاتفاً من السماء يقول له ذلك . وقيل ، خاطبه جبريل . وقيل : نبي . وقيل :رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له : كم لبثت .
قلت : والأظهر أن القائل هو الله تعالى ، لقوله "وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما" والله أعلم . وقرأ أهل الكوفة كم لبثت بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج . فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان . قال النحاس : والإظهار أحسن لتباين خرج الثاء من مخرج التاء . ويقال :كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير . و كم في موضع نصب على الظرف .
"قال لبثت يوما أو بعض يوم" إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه ، وعلى هذا لا يكون كاذباً أخبر به ، ومثله قول أصحاب الكهف "قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم" وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ـ على ما يأتي ـ ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم ، كأنهم قالوا : الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوماً أو بعض يوم . ونظيره . قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين :
"لم اقصر ولم أنس" . ومن الناس من يقول : إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل ، وهذا بين في نظر الأصول . فعلى هذا يجوز أن يقال : إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد ، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان . فهذا ما يتعلق بهذه الآية ، والقول الأول أصح . قال ابن جريج و قتادة و الربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحدا فقال : لبثت يوماً ، ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال : أو بعض يوم . فقيل : بل لبثت مائة عام ، ورأى من عمارة القرية واشجارها ومبانيها ما دله على ذلك .
قوله تعالى : "فانظر إلى طعامك" وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها . "وشرابك لم يتسنه" وقرأ ابن مسعود وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه . وقرأ طلحة بن مصرف وغيره واتظر لطعامك وشرابك لمائة سنة . وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها ،ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء . وقرأ طلحة بن مصرف أيضاً لم يسن وانظر أدغم التاء في السين ، فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية ، وحذفت الضمة للجزم ، ويكون يتسنه من السنة أي لم تغيره السنون . قال الجوهري : ويقال سنون ،والسنة واحدة السنين ، وفي نقصانها قولان : أحدهما الواو ، والآخر الهاء . وأصلها سنهة مثل الجبهة ، لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون . ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى ، وسنهاء أيضاً ، قال بعض الأنصار :
فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم ، وتسنيت أيضاً . واستأجرته مساناة ومسانهة أيضاً . وفي التصغير سنية وسنيهة . قال النحاس : من قرأ لم يتسن و انظر قال في التصغير : سنية وحذفت الألف للجزم ، ويقف على الهاء فيقول : لم يتسنه تكون الهاء لبيان الحركة . قال المهدوي : ويجوز أن يكون أصله من سانيته مساناة ، أي عاملته سنة بعد سنة ، أو من سانهت بالهاء ، فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم ، وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت ، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل ، وأصل سنة على هذا سنهة . وعلى القول الأول سنوة . وقيل : هو من أسن الماء إذا تغير ، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن . أبو عمرو الشيباني : هو من قوله "حمإ مسنون" فالمعنى لم يتغير . الزجاج ، ليس كذلك ، لأن قوله مسنون ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض . قال المهدوي : وأصله على قول الشيباني يتسنن فأبدلت إحدى النونين يا كراهة التضعيف فصار يتسنى ، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت . وقال مجاهد : لم يتسنه لم ينتن . قال النحاس : أصح ما قيل فيه أنه من السنة ، أي لم تغيره السنون . ويحتمل أن يكون من السنة وفي الجدب ، ومنه قوله تعالى : "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" وقوله عليه السلام :
"اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" . يقال منه : أسنت القوم أي أجدبوا ، فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب ، أو لم تغيره السنون والأعوام ، أي هو باق على طراوته وغضارته .
قوله تعالى : "وانظر إلى حمارك" قال وهب بن منبه وغيره : وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً . ويروى أنه أحياء الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة ، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً ، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق ، على هذا أكثر المفسرين . وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضاً أنهما قالا : بل قيل له : وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة عام ، وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه ، وسائر جسده ميت ، قالا : وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة .
قوله تعالى : "ولنجعلك آية للناس" قال الفراء : إنما أدخل الواو في قوله "ولنجعلك" دلالة على أنها شرط لفعل بعده ، معناه "ولنجعلك آية للناس" ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك . وإن سئت جعلت الواو مقحمة زائدة . وقال الأعمش : موضع كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الأبناء والحفدة شيوخاً . عكرمة : وكان يوم مات ابن أربعين سنة . وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيراً خرج من أهله وخلف امرأته حاملاً ، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة . وروي عن ابن عباس قال : لما أحيا الله عزيراً ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه ، فوجد في منزله عجوزاً عمياء كانت أمة لهم ، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة ، فقال لها : أهذا منزل عزير ؟ فقالت نعم ! ثم بكت وقالت : فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة ! قال : فأنا عزير ، قالت : إن عزيراً فقدناه منذ مائة سنة . قال : فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني . قالت : فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق ، فادع الله يرد علي بصري ، فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال . قالت : أشهد أنك عزير ! ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة ، وبنو بنيه شيوخ ، فقالت : يا قوم ، هذا والله عزير ! فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فنظرها فإذا هو عزير . وقيل :جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حياً من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً . قال ابن عطية : وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية ، وأمره كله آية غابر الدهر ، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض .
قوله تعالى : "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء ، وروى أبان عن عاصم ننشزها بفتح النون وضم الشين والراء ، وكذلك قرأ ابن عباس و الحسن وأبو حيوة ، فقيل : هما لغتان في الإحياء بمعنى ، كما يقال: رجع ورجعته ، وغاض الماء وغضته ، وخسرت الدابة وخسرتها ، إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا ، أي أحياهم الله فحيوا ، قال الله تعالى : "ثم إذا شاء أنشره" ويكون نشرها مثل نشر الثوب . ونشر الميت نشوراً أي عاش بعد الموت ، قال الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
فكأن الموت وطي للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء الأعضاء بعضها إلى بعض نشر . وأما قراءة ننشزها بالزاي فمعناه نرفعها . والنشز : المرتفع من الأرض ، قال :
ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل
قال مكي : المعنى :انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء ، لأن النشز الارتفاع ، ومنه المرأة النشوز ، وهي المرتفعة عن مواقفة زوجها ،ومنه قوله تعالى :"وإذا قيل انشزوا فانشزوا" أي ارتفعوا وانضموا . وأيضاً فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء ، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، والزاي أولى بذلك المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء . فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها ، ولا يقال : هذا عظم حي ، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء . وقرأ النخعي ننشزها بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس و قتادة . وقرأ ابي بن كعب ننشيها بالياء .
والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها . وقد استعاره لبيد للإسلام فقال :
حتى اكتسبت من الإسلام سربالاً
وقد تقدم أول السورة .
قوله تعالى : "فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" بقطع الألف . وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده . قال قتادة إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض ، لأن أول ما خلق الله منه رأسه وقيل له : انظر ، فقال عند ذلك : أعلم بقطع الألف ، أي أعلم هذا . وقال الطبري : المعنى في قوله فلما تبين له أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه قال : أعلم . قال ابن عطية : وهذا خطأ ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري ، بل هو قول بعثه الاعتبار ، كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لا إله إلا الله ونحو هذا .وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته .
قلت : وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة ، وكذلك قال مكي رحمه الله ، قال مكي : إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى ، فتيقن ذلك بالمشاهدة ، فأقر أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير ، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة ، وهذا على قراءة من قرأ أعلم بقطع الألف وهم الأكثر من القراء . وقرأ حمزة و الكسائي بوصل الألف ، ويحتمل وجهين : أحدهما قال له الملك : اعلم ، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة ، وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى :
ودع هريرة إن الركب مرتحل
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
قال ابن عطية : وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر :
تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسية كذي الهجمة الأبل
قال مكي : ويبعد أن يكون ذلك أمراً من الله جل ذكره له بالعلم ، لأنه قد أظهر إليه قدرته ، وأراه أمراً أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك ، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن . وفي حرف عبد الله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت ، وذلك أن في حرفه : قيل اعلم وأيضاً فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله : فانظر إلى طعامك و انظر إلى حمارك و وانظر إلى العظام فكذلك و اعلم ان الله وقد كان ابن عباس يقرؤها قيل اعلم ويقول أهو خير أم إبراهيم ؟ إذ قيل له واعلم ان الله عزيز حكيم . فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء .
تقدم قوله تعالى: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه, ولهذا عطف عليه بقوله "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" اختلفوا في هذا المار من هو, فروى ابن أبي حاتم, عن عصام بن رواد, عن آدم بن أبي إياس, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي بن أبي طالب, أنه قال: هو عزير. ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه, وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة, وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد, هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن إسحاق, عمن لا يتهم عن وهب بن منبه, أنه قال: هو اسم الخضر عليه السلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف, قال سمعت سلمان يقول: إن رجلاً من أهل الشام يقول: إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار. وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل, وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس, مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها "وهي خاوية" أي ليس فيها أحد, من قولهم خوت الدار تخوي خوياً.
ـ و قوله "على عروشها" أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها, فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة, وقال " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " وذلك لما رآى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه, قال الله تعالى: "فأماته الله مائة عام ثم بعثه" قال: وعمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته, وتكامل ساكنوها, وتراجع بنو إسرائيل إليها, فلما بعثه الله عز وجل بعد موته, كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه: كيف يحي بدنه, فلما استقل سوياً (قال) الله له, أي بواسطة الملك: "كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم" قال: وذلك أنه مات أول النهار, ثم بعثه الله في آخر النهار, فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم, فقال " أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير, فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء, لا العصير استحال, ولا التين حمض ولا أنتن, ولا العنب نقص "وانظر إلى حمارك" أي كيف يحييه الله عز وجل, وأنت تنظر "ولنجعلك آية للناس" أي دليلاً على المعاد "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" أي نرفعها, فيركب بعضها على بعض. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم, عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: "كيف ننشزها" بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه. وقرئ " ننشزها " أي نحييها, قاله مجاهد "ثم نكسوها لحماً". وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً, فنظر إليها وهي تلوح من بياضها, فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة, ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها, ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً, وبعث الله ملكاً فنفخ في منخري الحمار, فنهق بإذن الله عز وجل, وذلك كله بمرأى من العزيز, فعند ذلك لما تبين له هذا كله "قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" أي أنا عالم بهذا, وقد رأيته عياناً, فأنا أعلم أهل زماني بذلك, وقرأ آخرون قال اعلم على أنه أمر له بالعلم.
قوله: 259- " أو كالذي" أو للعطف حملاً على المعنى، والتقدير: هل رأيت كالذي حاج أو كالذي مر على قرية. قاله الكسائي والفراء. وقال المبرد: إن المعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية فحذف قوله من هو. وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة، واختار آخرون أنها إسمية. والمشهور أن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها، وقيل: المراد بالقرية أهلها. وقوله: "خاوية على عروشها" أي ساقطة على عروشها، أي سقط السقف ثم سقطت الحيطان عليه، قاله السدي واختاره ابن جرير وقيل: معناه خالية من الناس والبيوت قائمة، وأصل الخواء الخلو، يقال: خوت الدار وخويت تخوي خواءً ممدود وخوياً وخوياً: أقفرت، والخواء أيضاً الجوع لخلو البطن عن الغذاء. والظاهر القول الأول بدلالة قوله: "على عروشها" من خوى البيت إذا سقط، أو من خوت الأرض إذا تهدمت، وهذه الجملة حالية: أي من حال كونها كذلك. وقوله: "أنى يحيي هذه الله" أي متى يحيي أو كيف يحيي، وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباية لحالة الأحياء، وتقديم المفعول لكون الاستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل. فلما قال المار هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه "فأماته الله مائة عام ثم بعثه" وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكاً في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله عن إحياء موتاها. وقوله: "مائة عام" منصوب على الظرفية. والعام: السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان. وقوله: "بعثه" معناه أحياه. قوله: "قال كم لبثت" هو استئناف كأن سائلاً سأله ماذا قال له بعد بعثه. واختلف في فاعل قال، فقيل: هو الله عز وجل، وقيل: ناداه بذلك ملك السماء، قيل هو جبريل، وقيل غيره، وقيل إنه نبي من الأنبياء، قيل رجل من المؤمنين من قومه شاهده عنده أن أماته الله وعمر إلى عند بعثه. والأول أولى لقوله فيما بعد: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا عاصماً " كم لبثتم " بإدغام الثاء في التاء. وكم في موضع نصب على الظرفية، وإنما قال: "يوماً أو بعض يوم" بناءً على ما عنده وفي ظنه فلا يكون كاذباً، ومثله قول أصحاب الكهف: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: "لم تقصر ولم أنس" وهذا مما يؤيذ قول من قال: إن الصدق ما طابق الاعتقاد، والكذب ما خالفه. وقوله: "قال بل لبثت مائة عام" هو استئناف أيضاً كما سلف: أي ما لبثت يوماً أو بعض يوم بل لبث مائة عام. وقوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه" أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة. وقرأ ابن مسعود وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه وقرأ طلحة بن مصرف وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة. وروي عن طلحة أيضاً أنه قرأ لم يسن بإدغام التاء في السين وحذف الهاء. وقرأه الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، والتسنه مأخوذ من السنة: أي لم تغيره السنون، وأصلها سنهة أو سنوة من سنهت النخلة وتسنهت: إذا أتت عليها السنون، ونخلة سنا: أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، وأسنهت عند بني فلان: أقمت عندهم، وأصله يتسنا سقطت الألف للجزم والهاء للسكت وقيل: هو من أسن الماء: إذا تغير، وكان يجب على هذا أن يقال: يتأسن من قوله: "حمإ مسنون" قاله أبو عمرو الشيبانس. وقاله الزجاج: ليس كذلك، لأن قوله: "مسنون" ليس معناه متغير، وإنما معناه مصبوب على سنه الأرض. وقوله: "وانظر إلى حمارك" اختلف المفسرون في معناه، فذهب الأكثر إلى أن معناه انظر إليه كيف تفرقت أجزاؤه، ونخرت عظامه ثم أحياه الله وعاد كما كان. وقال الضحاك ووهب بن منبه: انظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام، ويؤيد القول الأول قوله تعالى: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه" وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه وشرابه بعد إخباره أنه لبث مائة عام، مع أن عدم تغير ذلك الطعام والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة، بل على ما قاله من لبثه يوماً أو بعض يوم لزيادة استعظام ذلك الذي أماته الله تلك المدة، فإنه إذا رأى طعامه وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظن أنه لم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم زادت الحيرة وقويت عليه الشبهة، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول، فإن الطعام والشراب سعيد التغير. وقد بقي هذه المدة الطويلة غير متغير، والحمار يعيش المدة الطويلة. وقد صار كذلك "فتبارك الله أحسن الخالقين". قوله: "ولنجعلك آية للناس" قال الفراء: إنه أدخل الواو في قوله: "ولنجعلك" دلالة على أنها شرط لفعل بعدها، معناه: ولنجعلك آية للناس ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة. قال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شباباً على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخاً. قوله: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء. وروى أبان عن عاصم نشرها بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الشين والراء. وقد أخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرأ كيف ننشزها بالزاي. فمعنى القراءة بالزاي نرفعها، ومنه النشز: وهو المرتفع من الأرض: أي يرفع بعضها إلى بعض. وأما معنى القراءة بالراء المهملة فواضحة من أنشر الله الموتى: أي أحياهم وقوله: "ثم نكسوها لحماً" أي: نسترها به كما نستر الجسد باللباس فاستعار اللباس لذلك، كما استعارة النابغة للإسلام فقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قوله: "فلما تبين له" أي ما تقدم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه وأمره بالنظر إليها والتفكر فيها "قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" لا يستعصي عليه شيء من الأشياء. قال ابن جرير: المعنى في قوله: "فلما تبين له" أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه. "قال أعلم" وقال أبو علي الفارسي معناه: أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. وقرأ حمزة والكسائي " قالوا ربكم أعلم " على لفظ الأمر خطاباً لنفسه على طريق التجريد.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي في قوله: "أو كالذي مر على قرية" قال: خرج عزير نبي الله من مدينته وهو شاب، فمر على قرية خربة وهي خاوية على عروشها، فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه" فأول ما خلق الله عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فقيل له: "كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام" فأتى مدينته. وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً فجاء وهو شيخ كبير. وقد ورد عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير، منهم ابن عباس عند ابن جرير وابن عساكر، ومنهم عبد الله بن سلام عند الخطيب وابن عساكر، ومنهم عكرمة وقتادة وسليمان وبريدة والضحاك والسدي عند ابن جرير، وورد عن جماعة آخرين أن الذي أماته الله هو نبي اسمه أرمياء، فمنهم عبد الله بن عبيد بن عمير عند عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، ومنهم وهب بن منبه عند عبد الرزاق وابن جرير وأبي الشيخ. وأخرج ابن إسحاق عنه أيضاً أنه الخضر. وأخرج ابن أبي حاتم عن رجل من أهل الشام أنه حزيقل. وروى ابن كثير عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل. والمشهور القول الأول. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "خاوية" قال: خراب. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "خاوية" ليس فيها أحد. وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: "على عروشها" سقوفها. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: ساقطة على سقوفها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "لبثت يوماً" ثم التفت فرأى الشمس فقال "أو بعض يوم". وأخرج عنه أيضاً قال: كان طعامه الذي معه سلة من تين، وشرابه زق من عصير. وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لم يتسنه" قال: لم يتغير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال: "لم يتسنه" لم ينتن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "ولنجعلك آية للناس" مثل ما تقدم عن الأعمش، وكذلك أخرج مثله أيضاً عن عكرمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "كيف ننشزها" قال: نخرجها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت قال: نحييها.
259. قوله تعالى: " أو كالذي مر على قرية " وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى، تقديره " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم " وإلى الذي مر على قرية وقيل: تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه ،وهل رأيت الذي مر على قرية؟ واختلفوا في ذللك المار فقال قتادة و عكرمة و الضحاك : هوعزيز بن شرخياً،وقال وهب بن منبه هو ارميا بن حلقيا ،وكان بن سبط هارون ،وهو الحضر وقال مجاهد : هو كافر شك البعث واحتلفوا في تللك القرية فقال وهب و عكرمة و قتادة :هي بيت المقدس ،وقال الضحاك هي الأرض المقدسة ،وقال الكلبي :هي دير سابر أباد، وقال السدي سلما باذ، وقيل :دير هرقل ،وقيل: هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل: هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس " وهي خاوية " ساقطة يقال : خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى مقصوراً، إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواءً ممدوداً إذا خلا " على عروشها " سقوفها، واحدها عرش وقيل: كل بناء عرش، ومعناه : أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها .
" قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها " وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث إرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل يسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى ارمياء: أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي، فقال إرمياء إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخذول إن لم تنصرني، فقال الله عز وجل: أنا ألهمك، فقام إرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله تعالى: وإني أحلف بعزتي لأقبضن لهم فتنة بتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليهم جباراً فارسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله تعالى إلى إ رمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، وبافث من أهل بابل، وهم من ولد بافث بن نوح عليه السلام، فلما سمع إرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه: ياإرمياء اشق عليك ما أوحيت إليك قال: نعم يارب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل مالا أسر به فقال الله تعالى: وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح إرمياء بذلك وطابت نفسه، فقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح فقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته.
ثم إ نهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي، ودعاهم الملك إلى التوبة، فلم يفعلوا، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر، فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله أوحى إليك؟ فقال إرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى إرمياء ملكاً قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل فقال له إرمياء: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسناً ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطاً لي فأفتني فيهم، قال: أحسن فبما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي، فقال له إرمياء: ما طهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل، فقال له النبي إرمياء عليه السلام: ارجع إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام الملك، فمكث أياماً وقد نزل بختنصر وخنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لإرمياء: يا نبي الله أين ما وعدك الله. قال: إني بربي واثق، ثم أقبل الملك إلى إرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه عز وجل الذي وعده، فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال النبي: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله: فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله فغضب الله وأتيتك لأخبرك، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبياً إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم، فقال إرمياء: يا مالك السموات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم، فلما خرجت الكلمة من فم إرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه ةقال: يا مالك السموات أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فطار إرمياء حتى خالط الوحوش.
ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثاً قتلهم، وثلثاً سباهم، وثلثاً أقرهم بالشام، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل إرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشى إيلياء، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها "؟.
وقال الذي قال إن المار كان عزيراً: إن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير زدانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القريةوهلاك أهلها قال: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " قالها تعجباً لا شكاً في البعث.
رجعنا إلى حديث وهب قال: ثم ربط إرمياء حماره بحبل جديد فألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، وذلك ضحىً، ومنع الله السباع والطير لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، ونحى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت ببابل وردهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض، تلوح فسمع صوتاً من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع بعضها إلى بعض، واتصل بعضها ببعض فنودي: إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً، فكانت كذلك ثم نودي: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق، وعمر الله إرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: " فأماته الله مائة عام ثم بعثه " أي أحياه " قال كم لبثت " أي: كم مكثت؟ يقال: لما أحيا الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت؟ " قال لبثت يوماً " وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوماً وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال " أو بعض يوم " بل بعض يوم " قال " له الملك " بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك " يعني التين " وشرابك " يعني العصير " لم يتسنه " أي لم يتغير، فكان التين كأنه قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته.
قال الكسائي : كأنه لم تأت عليه السنون. وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وكذلك " فبهداهم اقتده " (90-الأنعام) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلاً ووقفاً، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال: أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وابدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو : هم من التسنن بنونين: وهو التغير كقوله تعالى: " من حمإ مسنون " (26-الحج) أي متغير فعوضت من احدى النونين ياء كقوله تعالى: " ثم ذهب إلى أهله يتمطى " (33-القيامة) أي يتمطط، وكقوله " وقد خاب من دساها " (10-الشمس) وأصله دسيتها، وتصغيرها سنيهة والفعل من السانهة وإنما قال: لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين رد التغيير إلى أقرب اللفظين وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآحر " وانظر إلى حمارك " فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر " ولنجعلك آية للناس " قيل الواو زائدة مقحمة. وقال الفراء : أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية أي: عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك وغيره: إنه عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية.
قوله تعالى: " وانظر إلى العظام كيف ننشزها " قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء معناه نحييها يقال: أنشر الله الميت إنشاراً ونشرة ونشوراً قال الله تعالى: " ثم إذا شاء أنشره " (22-عبس) وقال في اللازم " وإليه النشور " (15-الملك) وقرأ الآخرون بالزاي أي نرفعها من الآرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه، يقال: أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع.
واختلفوا في معنى الآية، فقال الأكثرون: أراد به عظام حماره، وقال السدي : إن الله تعالى أحيا عزيراً ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث الله تعالى ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم " ثم نكسوها لحماً " ثم كسا العظام لحماً ودماً فصار حماراً لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الخمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله.
وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر الرمة في عنقه جديدة لم تتغير، وتقدير الآية: " وانظر إلى حمارك " وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديرهما: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس.
وقال قتادة عن كعب و الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما أحيا الله تعالى عزيراً بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله فانطلق علىوهم حتى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً قال: فإني أنا عزير، قالت: سبحان الله فإن عزيراً قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال: فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت: فإن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه فقالت: أشهد أنك عزير، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.
وقال السدي و الكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق، فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاهمن ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبياً، فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا: أملها علينا، فأملاها عليهم من ظهر قلبه، فقالوا: ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعد ما ذهبت إلا أنه ابنه، فقالوا: عزير ابن الله، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " فلما تبين له " ذلك عياناً " قال: أعلم " قرأ حمزة و الكسائي مجزوماً على الأمر على معنى قال الله تعالى اعلم، وقرأ الآخرون أعلم بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم " أن الله على كل شيء قدير ".
259-" أو كالذي مر على قرية " تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه ، وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصي ، بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر . وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذي حاج ، أو كالذي مر . وقيل : إنه من كلام إبراهيم ذكره جواباً لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية . وهو عزير بن شرحيا . أو الخضر ، أو كافر بالبعث . ويؤيده نظمه مع نمرود . والقرية هي بيت المقدس حين خربه بختنصر . وقيل القرية التي خرج منها الألوف . وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع . " وهي خاوية على عروشها " خالية ساقطة حيطانها على سقوفها . " قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها " اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاماً لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمناً ، واستبعاداً إن كان كافراً . و " أنى " في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف . " فأماته الله مائة عام " فألبثه ميتاً مائة عام ، أو أماته الله فلبث ميتاً مائة عام . " ثم بعثه " بالإحياء . " قال كم لبثت " القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافراً لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان . وقيل ملك أو نبي . " قال لبثت يوماً أو بعض يوم " كقول الظان . وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب . " قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " لم يتغير بمرور الزمان ، واشتقاقه من السنة . والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واواً . وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضى البازي ، وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشرب كالجنس الواحد . وقيل كان طعامه تيناً وعنباً وشرابه عصيراً أو لبناً وكان الكل على حاله ز وقرأ حمزة و الكسائي لم يتسن بغير الهاء في الوصل . " وانظر إلى حمارك " كيف تفرقت عظامه ، أو انظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظناه الطعام والشراب من التغير ، والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده . " ولنجعلك آيةً للناس " أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية . روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه ، فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك ، وقالوا هو ابن الله . وقيل لما رجع إلى منزله كان شاباً وأولاده شيوخاً فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة . " وانظر إلى العظام " يعني عظام الحمار ، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم . " كيف ننشزها " كيف نحييها ، أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه ، وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي : انظر إليها محياة . وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب ننشرها من أنشر الله الموتى ، وقرئ ننشرها من نشر بمعنى أنشر . " ثم نكسوها لحماً فلما تبين له " فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقدير ه : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير . " قال أعلم أن الله على كل شيء قدير " فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، أو يفسره ما قبله أن فلما تبين له ما أشكل عليه . وقرأ حمزة و الكسائي " قال أعلم " على الأمر مخاطبة ، أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت .
259. Or (bethink thee of) the like of him who, passing by a township which had fallen into utter ruin, exclaimed: How shall Allah give this township life after its death? And Allah made him die a hundred years, then brought him back to life. He said: How long hast thou tarried? (The man) said: I have tarried a day or part of a day. (He) said: Nay, but thou hast tarried for a hundred years. Just look at thy food and drink which have rotted! Look at thine ass! And, that We may make thee a token unto mankind, look at the bones, how We adjust them and then cover them with flesh! And when (the matter) became clear unto him, he said: I know now that Allah is Able to do all things.
259 - Or (take) the similitude of one who passed by a hamlet, all in ruins to its roofs. he said: oh! how shall God bring it (ever) to life, after (this) its death? but God caused him to die for a hundred years, then raised him up (again). he said: how long didst thou tarry (thus)? he said: (perhaps) a day or part of a day. he said: nay, thou hast tarried thus a hundred years; but look at thy food and thy drink; they show no signs of age; and look at thy donkey: and that we may make of the e a sign unto the people, look further at the bones, how we bring them together and clothe them with flesh. when this was shown clearly to him, he said: i know that God hath power over all things.