27 - (بما غفر لي ربي) بغفرانه (وجعلني من المكرمين)
" قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي " يقول: يا ليتهم يعلمون أن السبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وجعلني من الذين أكرمهم الله بإدخاله إياه جنته، كان إيماني بالله وصبري فيه، حتى قتلت، فيؤمنوا بالله ويستوجبوا الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن عبد الله ابن مسعود كان يقول: قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حياً يرزق فيها، قد أذهب الله عنه سفم الدنيا وحزنها ونصبها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " قيل ادخل الجنة " فلما دخلها " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " قال: فلا تلقي المؤمن إلا ناصحاً، ولا تلقاه غاشاً، فلما عاين ما عاين من كرامة الله " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله، وما هجم عليه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " قيل ادخل الجنة " قال: قيل: قد وجبت له الجنة، قال ذاك حين رأى الثواب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد " قيل ادخل الجنة " قال: وجبت لك الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم ابن أبي بزة، عن مجاهد " قيل ادخل الجنة " قال: وجبت له الجنة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مجلز، في قوله " بما غفر لي ربي " قال: إيماني بربي، وتصديقي رسله. والله أعلم.
الذي هو " بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " وقرىء < من المكرمين > وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقتبه . الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً . رفعه القشيري فقال : " وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية : إنه يصح لهم في حياته وبعد موته " . وقال ابن أبي ليلى :
سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب يس ، فهم الصديقون ، ذكره الزمخشري مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية تنبيه عظيم ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤف على من دخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه . إلا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام . فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه ، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم .
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه, أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره, وقال الله له: "ادخل الجنة" فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة, وذلك أنه قتل فوجبت له, فلما رأى الثواب "قال يا ليت قومي يعلمون" قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه. وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله "يا قوم اتبعوا المرسلين" وبعد مماته في قوله " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " رواه ابن أبي حاتم .
وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز "بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين" بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم, لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه, فلقد كان حريصاً على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عبيد الله , حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال " عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف أن يقتلوك فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فانطلق, فمر على اللات والعزى, فقال:لأصبحنك غداً بما يسوؤك, فغضبت ثقيف, فقال: يا معشر ثقيف إن اللات لالات وإن العزى لا عزى, أسلموا تسلموا, يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لالات, أسلموا تسلموا, قال ذلك ثلاث مرات, فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مثله كمثل صاحب يس" " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ".
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار , أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم, ثم يقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع, فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا, ولا تسمع ذاك ؟ فيقول: نعم, فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه, فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب.
وقوله تبارك وتعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم, لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه, ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم, بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" أي ما كاثرناهم بالجموع, الأمر كان أيسر علينا من ذلك "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال: فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار, وأهلك أهل أنطاكية, فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية, وقيل "وما كنا منزلين" أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم, وقيل المعنى في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء" أي من رسالة أخرى إليهم, قاله مجاهد وقتادة . قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال ابن جرير : والأول أصح, لأن الرسالة لا تسمى جنداً. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام, فأخذ بعضادتي باب بلدهم, ثم صاح بهم صيحة واحدة, فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية, وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, كما نص عليه قتادة وغيره, وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره, وفي ذلك نظر من وجوه:
(أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل, لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين " ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله تعالى أعلم, ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم "إن أنتم إلا بشر مثلنا".
(الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم, وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح, ولهذا كانت عندالنصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة, وهن: القدس لأنها بلد المسيح, وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها, والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين, ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده, ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها, كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم, كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين, فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت, فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم, والله أعلم.
(الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة, وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم, بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين, ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية, كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة, فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري , حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني , حدثنا حسين الأشقر , حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون , والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس , والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فإنه حديث منكر, لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر , وهو شيعي متروك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
و ما في 27- "بما غفر لي" هي المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل هي الموصولة: أي بالذي غفر لي ربي، والعائد محذوف: أي غفر ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له. وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى التعجب، كأنه قال: بأي شيء غفر لي ربي. قال الكسائي: لو صح هذا لقال بمن من غير ألف. ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسوراً بالنسبة إلى حذفها، ومنه قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في دمان
وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته إرغاماً لهم. وقيل إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه، فيصيروا إلى مثل حاله.
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية" قال: هي أنطاكية. وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "طائركم معكم" قال: شؤمكم معكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وجاء من أقصى المدينة رجل" قال: هو حبيب النجار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر، قال اسم صاحب يس: حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: لما قال صاحب يس "يا قوم اتبعوا المرسلين" خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال: "إني آمنت بربكم فاسمعون" أي فاشهدوا لي.
27. " بما غفر لي ربي "، يعني: بغفران ربي لي، " وجعلني من المكرمين "، تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه، ليرغبوا في دين الرسل.
فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم،
27 -" بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء ، أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق ، وقرئ " المكرمين " و (( ما )) خبرية أو مصدرية والباء صلة " يعملون " أو استفهامية جاء على الأصل ، والباء صلة غفر أي بأي شيء " غفر " لي ، يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم .
27. With what (munificence) my Lord hath pardoned me and made me of the honored ones!
27 - For that my Lord has granted me Forgiveness and has enrolled me among those held in honour