27 - (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية) هي رفض النساء واتخاذ الصوامع (ابتدعوها) من قبل انفسهم (ما كتبناها عليهم) ما أمرناهم بها (إلا) لكن فعلوها (ابتغاء رضوان) مرضاة (الله فما رعوها حق رعايتها) إذ تركها كثير منهم وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم فآمنوا بنبينا (فآتينا الذين آمنوا) به (منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون)
يقول تعالى ذكره : ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم برسلنا وأتبعنا بعيسى ابن مريم " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " يعني : الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته " رأفة " وهو أشد الرحمة " ورحمة ورهبانية ابتدعوها " يقول : أحدثوها " ما كتبناها عليهم " يقول : ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم " إلا ابتغاء رضوان الله " يقول : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " فما رعوها حق رعايتها " .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها لم يقوموا بها ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى فتنصروا وتهودوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حق رعايتها لأنهم كانوا كفاراً ولكنهم قالوا نفعل كالذي يفعلون من ذلك أولياً فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " فهاتان من الله والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم ولم تكتب عليهم ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ذكر لنا أنهم رفضوا النساء واتخذوا الصوامع .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة " ورهبانية ابتدعوها " قال : لم تكتب عليهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " ما كتبناها عليهم " قال فلم ؟ قال : ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوعا فما رعوها حق رعايتها .
ذكر من قال : الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم .
حدثنا الحسين بن الحريث أبو عمار قال : ثنا الفضل بن موسى عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل فقيل لملكهم : ما نجد شيئا أشد علينا من شتم يشتمناه هؤلاء أنهم يقرءون " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( المائدة : 44 ) هؤلاء الآيات مع ما يعيبوننا به في قراءتهم فادعهم فليقرءوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا به قال : فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك فدعونا قال : فقالت طائفة منهم ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وقالت طائفة منهم دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب تشرب الوحوش فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا وقالت طائفة ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم عليكم ولا نمر بكم وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم قال ففعلوا ذلك فأنزل الله جل ثناؤه " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " الآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان وتتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وجاء صاحب الدار من داره وآمنوا به وصدقوه فقال الله جل ثناؤه " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " قال : أجرين لإيمانهم بعيسى وتصديقهم بالتوراة والإنجيل وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به قال ويجعل لكم نورا تمشون به القرآن وأتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " ( الحديد : 29 ( .
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : ثنا داود بن المحبر قال : ثنا الصعق بن حزن قال : ثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " قال ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله "فما رعوها حق رعايتها" قال ما رعاها الذين من بعدهم حق رعايتها "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " قال وهم الذين آمنوا بي وصدقوني قال : " وكثير منهم فاسقون " قال : فهم الذين جحدوني وكذبوني " .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها " قال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من فني منهم يقولون نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم .
ذكر من قال الذين لم يرعوها حق رعايتها الذين ابتدعوها .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله : " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " إلى قوله " حق رعايتها " يقول : ما أطاعوني فيها وتكلموا فيها بمعصية الله وذلك أن الله عز وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبق منهم إلا قليل وكثر أهل الشرك وذهب الرسل وقهروا اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم وتركوا أمر الله عز وجل ودينه وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية فلم يرعوها حق رعايتها وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه حين جاءهم بالبينات وبعث الله عز وجل محمدا رسولا صلى الله عليه وسلم وهم كذلك فذلك قوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " إلى " والله غفور رحيم " .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " كان الله عز وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبق منهم إلا القليل وكثر أهل الشرك وانقطعت الرسل اعتزلوا الناس فصاروا في الغيران فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم فتركوا دين الله وأمره وعهده الذي عهده إليهم وأخذوا بالبدع فابتدعوا النصرانية واليهودية فقال الله عز وجل لهم : " ما رعوها حق رعايتها " وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ولم يكتب عليكم قيامه وإنما القيام شيء ابتدعتموه وإن قوماً ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعابهم الله بتركها فقال " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بعض الطوائف التي ابتدعتها وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال : فدل بذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحق الأجر الذي قال جل ثناؤه " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " إلا أن يكونوا كانوا بعدهم لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها فجائز في كلام العرب أن يقال لم يرعها القوم على العموم والمراد منهم البعض الحاضر وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .
وقوله " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " يقول تعالى ذكره : فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة وكثير منهم أهل معاص وخروج عن طاعته والإيمان به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ابن زيد " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " قال : الذين رعوا ذلك الحق .
فيه أربع مسائل :
قوله تعالى : " ثم قفينا " أي تبعنا "على آثارهم " أي الذرية . وقيل : على نوح وإبراهيم " برسلنا " موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرم " وقفينا بعيسى ابن مريم " فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه " وآتيناه الإنجيل " وهو الكتاب المنزل عليه . وتقدم اشتقاقه في أول سورة آل عمران .
الثانية : قوله تعالى: " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " على دينه يعني الحواريين وأتباعهم " رأفة ورحمة " أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا . وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه . والرأفة اللين ، والرحمة الشفقة . وقيل: الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل . وقيل : الرأفة أشد الرحمة .وتم الكلام . ثم قال : " ورهبانية ابتدعوها " أي من قبل أنفسهم . والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها . وقال الزجاج : أي ابتدعوها رهبانية ، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت . وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها . قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب . الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا . قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع . وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع . وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبراري والجبال . " ما كتبناها عليهم " أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ، قاله ابن زيد وقوله تعالى : " إلا ابتغاء رضوان الله " أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ، قال ابن مسلم . وقال الزجاج : " ما كتبناها عليهم " معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة . ويكون " ابتغاء رضوان الله " بدلا من الهاء والألف في كتبناها والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وقيل : " إلا ابتغاء " الاستثناء منقطع والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . " فما رعوها حق رعايتها " أي فما قاموا بها حق القيام . وهذا خصوص ، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم كما قال تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله " [ التوبة : 34 ] وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر . وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها" قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة ،فقال المؤمنون نحن نكفيكم أنفسنا . فطائفة قالت : ابن لنا اسطوانة ارفعونا فيها ،وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم .وقالت طائفة دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا . وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا . وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ،فمضى أولئك على منهاج عيسى ،وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد ولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " الآية . يقول ابتدعها هؤلاء الصالحون " فما رعوها" المتأخرون " حق رعايتها " "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها " وكثير منهم فاسقون" يعني المتأخرين ، لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثالثة : وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ،فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية . وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن جلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذا فعلتموه ولاتتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " .
الرابعة : وفي الآية دليل على الزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ،وذلك مندوب به عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان . وعد مضى بيان هذا في سورة الكهف مستوفى والحمد لله .وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : " حرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال مر رجل بغار فيه شيء من ماء ،فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا . قال : ل أني اتيت النبي صلى الله عله وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ،فأتاه فقال : يا نبي الله ! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأخلى من الدنيا . قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم :إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدهم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة " . وروى الكوفيون "عن ابن مسعود ،قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري أي الناس ألم قال :قلت : الله ورسوله أعلم . قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقتصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا" ورهبانية " الآية - أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا بن مسعود اختلف من كان قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فيدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم :" ورهبانية ابتدعوها " - الآية - فمنهم آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون " يقني الذين تهودوا وتنصروا وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون .وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر .والله اعلم .
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولانبياً إلا من ذريته وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن, لم ينزل من السماء كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته, كما قال تعالى في الاية الأخرى: "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما, ولهذا قال تعالى: "ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل" وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه" وهم الحواريون "رأفة" أي رقة وهي الخشية "ورحمة" بالخلق. وقوله: "ورهبانية ابتدعوها" أي ابتدعها أمة النصارى "ما كتبناها عليهم" أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم .
وقوله تعالى: "إلا ابتغاء رضوان الله" فيه قولان (أحدهما) أنهم قصدوا بذلك رضوان الله, قاله سعيد بن جبير وقتادة. (والاخر) ـ ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله تعالى: "فما رعوها حق رعايتها" أي فما قاموا بما التزموا حق القيام, وهذا ذم لهم من وجهين (أحدهما) ـ الابتداع في دين الله مالم يأمر به الله و (الثاني) ـ في عدم قيامهم بماالتزموا مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السري بن عبد ربه, حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود, عن أبيه عن جده ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياابن مسعود" قلت: لبيك يارسول الله. قال: "هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق, قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام, فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم, فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت, ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال, فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت, ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط, فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"".
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال: حدثنا يحيى بن أبي طالب, حدثنا داود بن المحبر, حدثنا الصعق بن حزن, حدثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم" وذكر نحو ما تقدم وفيه ""فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" هم الذين آمنوا بي وصدقوني "وكثير منهم فاسقون" وهم الذين كذبوني وخالفوني" ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث, ولكن قد أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن به مثل ذلك, فقوي الحديث من هذا الوجه.
وقال ابن جرير وأبو عبد الرحمن النسائي واللفظ له: أخبرنا الحسين بن حريث, حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان بن سعيد عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل, فقيل لملوكهم ما نجد شيئاً أشد من شتم يشتموناه هؤلاء إنهم يقرأون "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" هذه الايات مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرأوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا, فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها, فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا, فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم, وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش, فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا, وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الابار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولانمر بكم, وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم, ففعلوا ذلك, فأنزل الله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها".
والاخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان, وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم, فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا القليل انحط منهم رجل من صومعته, وجاء سائح من سياحته, وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم وتصديقهم بالتوراة والإنجيل, وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال "ويجعل لكم نوراً تمشون به" القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لئلا يعلم أهل الكتاب" الذين يتشبهون بكم " ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " هذا السياق فيه غرابة, وسيأتي تفسير هاتين الايتين على غير هذا, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن عيسى, حدثنا عبد الله بن وهب, حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير, وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة المسافر أو قريباً منها, فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته ؟ قال: إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" ثم غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر, قال: نعم فركبوا جميعاً فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية على عروشها, فقالوا: أتعرف هذه الديار ؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل الديار أهلكهم البغي والحسد, إن الحسد يطفىء نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه, والعين تزني والكف تزني والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر, حدثنا عبد الله أخبرنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل" ورواه الحافظ أبو يعلى عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن عبد الله بن المبارك به ولفظه "لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله". وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين ـ هو ابن محمد ـ حدثنا ابن عياش يعني إسماعيل عن الحجاج بن مروان الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاءه فقال: أوصني, فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام, وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد, والله أعلم.
27- "ثم قفينا على آثارهم برسلنا" أي اتبعنا على آثار الذرية أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم "وقفينا بعيسى ابن مريم" أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه و"آتيناه الإنجيل "وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدم ذكر استقاقه في سورة آل عمران. قرأ الجمهور "الإنجيل" بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة" الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة اللين، والرحمة الشفقة، وقيل الرأفة أشد الرحمة "ورهبانية ابتدعوها" انتصاب رهبانية على الاشتغال: أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل معطوفة على ما قبلها: أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم. والأول أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة "ما كتبناها عليهم" صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما "إلا ابتغاء رضوان الله" الاستثناء منقطع: أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقال الزجاج: ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئاً البتة، قال: ويكون "إلا ابتغاء رضوان الله" بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله "فما رعوها حق رعايتها" أي لم رعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم وبل صيعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذي غيروا وبدلوا وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله: "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى أمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله "وكثير منهم فاسقون" خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر.
27- "ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه"، على دينه، "رأفةً"، وهي أشد الرقة، "ورحمةً"، كانوا متوادين بعضهم لبعض، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "رحماء بينهم" (الفتح- 29)، "ورهبانية ابتدعوها"، من قبل أنفسهم، وليس هذا بعطف على ما قبله، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال: وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم، "ما كتبناها"، أي ما فرضناها، "عليهم إلا ابتغاء رضوان الله"، يعني: ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال، "فما رعوها حق رعايتها"، أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى، فتهودوا وتنصروا، ودخلوا في دين ملوكهم، وتركوا الترهب، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وذلك قوله تعالى: "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم"، وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة، "وكثير منهم فاسقون"، وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن، فرقة آزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا: تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، / فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية: "ورهبانية ابتدعوها" الآية. "فآتينا الذين آمنوا منهم"، يعني من ثبتوا عليها أجرهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: الهجرة والجهاد، والصلاة والصوم، والحج والعمرة، والتكبير على التلاع".
وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله".
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم: لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا: نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب، فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعز وجل: "ورهبانية ابتدعوها" أي ابتدعها هؤلاء الصالحون، "فما رعوها حق رعايتها"، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم، "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم"، يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، "وكثير منهم فاسقون"، هم الذين جاؤوا من بعدهم.
27-" ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم " أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام ،والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم ، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية ، فإن الرسل لملقى بهم من الذرية . " وآتيناه الإنجيل " وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي . " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً " وقرئ رآفة على فعالة . " ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها " أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس ، منسوبة إلى البرهان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي ، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى البرهان وهو جمع راهب كراكب وركبان . " ما كتبناها عليهم " ما فرضناها عليهم . " إلا ابتغاء رضوان الله " استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها " ابتغاء رضوان الله " . وقيل متصل فإن " ما كتبناها عليهم " بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله ، وهو يخالف قوله " ابتدعوها " إلا أن يقال " ابتدعوها " ثم ندبوا إليها ، أو " ابتدعوها " بمعنى استحدثوها واتوا بها ، أو لأنهن اخترعوها من تلقاء أنفسهم . " فما رعوها " أي فم رعوها جميعاً . "حق رعايتها " بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ونحوها إليها . " فآتينا الذين آمنوا " أتوا بالإيمان الصحيح ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وحافظوا حقوقها ." منهم " من المتسمين باتباعه . "أجرهم وكثير منهم فاسقون " خارجون عن حال الاتباع .
27. Then We caused Our messengers to follow in their footsteps; and We caused Jesus, son of Mary, to follow, and gave him the Gospel, and placed compassion and mercy in the hearts of those who followed him. But monasticism they invented. We ordained it not for them. Only seeking Allah's pleasure, and they observed it not with right observance. So We give those of them who believe their reward, but many of them are evil livers.
27 - Then, in their wake, We followed them up with (others of) Our apostles: We sent after them Jesus the son of Mary. And bestowed on him the Gospel; and We ordained in the hearts of those who followed him Compassion and Mercy. But the Monasticism which they invented for themselves, We did not prescribe for them: (We commanded) only the seeking for the Good Pleasure of God; but that they did not foster as they should have done. Yet We bestowed, on those among them who believed, their (due) reward, but many of them are rebellious transgressors.