28 - (وجعلها) أي كلمة التوحيد المفهومة من قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين (كلمة باقية في عقبه) ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله (لعلهم) أهل مكة (يرجعون) عما هم عليه إلى دين إبراهيم أبيهم
وقوله : " وجعلها كلمة باقية في عقبه " يقول تعالى ذكره : وجعل قوله : " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني " وهو قول لا إله إلا الله ، كلمة باقية في عقبه ، وهم ذريته ، فلم يزل في ذريته من يقول ذلك من بعده .
واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : لا إله إلا الله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " وجعلها كلمة باقية " قال : شهادة أن لا إله إلا الله والتوحيد ، لم يزل في ذريته من يقولها من بعده .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : التوحيد والإخلاص ، ولا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : لا إله إلا الله .
وقال آخرون : الكلمة التي جعلها الله في عقب اسم الإسلام .
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله : " وجعلها كلمة باقية في عقبه " فقرأ : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " [ البقرة : 131 ] قال : جعل هذه باقية في عقبه ، قال : الإسلام ، وقرأ " هو سماكم المسلمين من قبل " [ الحج : 78 ] فقرأ " واجعلنا مسلمين لك " [ البقرة : 128 ] .
وبنحو ما قلنا في معنى العقب قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " في عقبه " قال : ولده .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : يعني من خلفه .
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " في عقبه " قال : في عقب إبراهيم آل محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب أنه كان يقول : العقب : الولد ، وولد الولد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد " في عقبه " قال : عقبه : ذريته .
وقوله : " لعلهم يرجعون " يقول : ليرجعوا إلى طاعة ربهم ، ويثوبوا إلى عبادته ، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :ثنا سعيد ، عن قتادة " لعلهم يرجعون " : أي يتوبون ، أو يذكرون .
فيه ثلاث مسائل :
الأول : قوله تعالى : " وجعلها كلمة باقية " الضمير في (( جعلها )) عائد على قوله : " إلا الذي فطرني " وضمير الفاعل في (( جعلها )) لله عز وجل ، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبة ، وهم ولده ، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله وأوصى بعضهم بعضاً في ذلك ، والعقب من يأتي بعده ، وقال السدي : هم آل محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : قوله : (( في عقبه )) أي في خلفه ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبة ، أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله ، قال مجاهد و قتادة : الكلمة لا إله إلا الله ، قال قتادة : لا يزال من عقبة من يعبد الله إلى يوم القيامة ، وقال الضحاك : الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله ، عكرمة : الإسلام ، لقوله تعالى : " هو سماكم المسلمين من قبل " [ الحج : 78 ] ، القرظي : وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله : " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين " [ البقرة : 132 ] ، الآية المذكورة في البقرة ، كلمة باقية في ذريته وبنيه ، وقال ابن زيد : الكلمة قوله " أسلمت لرب العالمين " [ البقرة : 131 ] ، وقرأ ( وهو سماكم المسلمين من قبل ) وقيل : الكلمة النبوة ، قال ابن العربي : ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم ، والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم .
الثانية : قال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاف بدعوتيه المجابتين ، إحداهما في قوله : " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " [ البقرة : 124 ] ، فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد ، ثانيهما قوله : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " [ إبراهيم : 35 ] ، وقيل : بل الأولى قوله : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " [ الشعراء : 84 ] ، فكل أمة تعظمه ، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح .
الثالثة : قال ابن العربي : جرى ذكر العقب هاهنا موصولاً في المعنى ، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمري والتحبيس " قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " ، وهي ترد على أحد عشرة لفظاً :
اللفظ الأول : الولد ، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور ، وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعاً ، ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه قوم آخرين ، ولذلك لم يداخلوا في الحبس بهذا اللفظ ، قاله مالك في المجموعة وغيرها .
قلت هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين ، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم " [ النساء : 11 ] ، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس ، يقول المحبس : حبست على ولدي أو على عقبي ، وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره ، واحتجوا بقول الله عز وجل ، " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " [ النساء : 23 ] ، قالوا : فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس على ولده أو عقبه ، وقد مضى هذا المعنى في (( الأنعام )) مستوفى .
اللفظ الثاني : البنون ، فإن قال : هذا حبس على ابني ، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد ، ولو قال ولدي ، لتعدى في كل من ولد ، وإن قال على بني ، دخل فيه الذكور والإناث ، قال ما لك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك ، روى عيسى عن ابن القاسمفيمن حبس على بناته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه ، والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين ، فإن قيل : فقد " قال النبي صلى الله عليه وسلم مفي الحسن ابن ابنته : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ، قلنا : هذا مجاز ، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه ، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني ، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ، لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها ، ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه ، ولذلك قيل في عبد الله بن عباس : إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية .
قلت : هذا الاستدلال غير صحيح ، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه ، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " وقال تعالى : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى قوله " من الصالحين " [ الأنعام : 85 ] ، فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك ، فإن قيل فقد قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قيل لهم : هذا لا دليل فيه ، لأن معنى قوله : إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذي لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب ، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك ن إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن ، وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقاً ، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه ، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه ، ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولداً فقد أفسد معناه وأبطل فائدته ، وتأول على قائله ما لا يصح ، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابناً ، ولا يسمى ولد الابنة ابناً ، من أجل معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة ، وولد الابن إنما هو ولده بماله مما كان سبباً للولادة ، ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان ، وإنما أخرجهم منه قياساً على الموارثة ، وقد مضى هذا في (( الأنعام )) والحمد لله .
اللفظ الثالث : الذرية ، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق ، فيدخل فيه ولد البنات لقوله : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى أن قال : " وزكريا ويحيى وعيسى " وإنما كان من ذريته من قبل أمه ، وقد مضى في (( البقرة )) اشتقاق الذرية وفي (( الأنعام )) الكلام على (( ومن ذريته )) الآية ، فلا معنى للإعادة .
اللفظ الرابع : العقب ، وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه ، يقال : أعقب الله بخير ، أي جاء بعد الشدة بالرخاء ، وأعقب الشيب السواد ، وعقب يعقب عقوباً وعقباً إذا جاء شيئاً بعد شيء ، ولهذا قيل لولد الرجل : عقبه ، والمعقاب من النساء : التي تلد ذكراً بعد أنثى ، هكذا أبداً ، وعقب الرجل : ولده وولد ولده الباقون بعده ، والعاقبة الولد ، قال يعقوب : في القرآن " وجعلها كلمة باقية في عقبه " [ الزخرف : 28 ] ، وقيل : بل الورثة كلهم عقب ، والعاقبة الولد ، ولذلك فسره مجاهد هنا وقال ابن زيد : هاهنا هم الذرية ، وقال ابن شهاب : هم الولد وولد الولد وقيل غيره على ما تقدم عن السدي ، وفي الصحاح والعقب ( بكسر القاف ) مؤخر القدم وهي مؤنثة ، وعقب الرجل أيضاً ولده وولد ولده ، وفيه لغتان : عقب وعقب ( بالتسكين ) وهي أيضاً مؤنثة، عن الأخفش وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه ، وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى :" ليس لوقعتها " [ الواقعة : 2 ] ، ولا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى ، واختلف في الذرية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب ، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك ، وقيل : إنهم يدخلون فيهما ، وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي (( الأنعام )) .
اللفظ الخامس : نسلي ، وهو عند علمائنا كقوله : ولدي وولد ولدي ، فإنه يدخل فيه ولد البنات ، ويجب أن يدخلوا ، لأن نسل بمعنى خرج ، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ، ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن بقوله عقبى ما تناسلوا ، وقال بعض علمائنا : إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات ، إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي ، كما إذا قال : عقبي وعقب عقبي ، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفرداً فلا يدخل فيه البنات .
اللفظ السادس : الآل ، وهم الأهل ، وهو اللفظ السابع ، قال ابن القاسم : هما سواء ، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات ، ولا يدخل فيه الخالات ، وأصل أهل الاجتماع يقال : مكان آهل إذا كان فيه جماعة ، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد من النساء ، والعصبة مشتقة منه وهي أخص به ، وفي حديث الإفك ، يا رسول الله ، أهلك ! ولا نعلم إلا خيراً ، يعني عائشة ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل ، لأن ثبوتها ليس بيقين غذ قد يتبدل ربطها وينحل الطلاق ، وقد قال مالك : آل محمد كل تقي ن وليس من هذا الباب ، وإنما أراد أن الإيمان أخص من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة وقد قال أبو إسحاق التونسي : يدخل في الأهل كل من كان من جهة الأبوين ، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق ، فهذان لفظان .
اللفظ الثامن : قرابة ، فيه أربعة أقوال : الأول قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالأجتهاد ، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات ، الثاني : يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه ، قاله علي بن زياد : الثالث : قال أشهب يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء ، الرابع : قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت ، وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " [ الشورى : 23 ] ، قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم ، وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ، فهذا يضبطه والله أعلم .
اللفظ التاسع : العشيرة ، ويضبطه الحديث الصحيح : إن الله تعالى لما أنزل : " وأنذر عشيرتك الأقربين " [ الشعراء : 214 ] ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم كما تقدم ذكره وهم العشيرة الأقربون ، وسواهم عشيرة في الإطلاق ، واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد ، كما تقدم من قول علمائنا .
اللفظ العاشر : القوم ، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء والقوم يشمل الرجال والنساء وإن كان الشاعر قد قال :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال ، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء ، فتعمه الصفة وتخصصه القرينة .
اللفظ الحادي عشر : الموالي ، قال مالك : يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه وقال ابن وهب : يدخل فيه أولاد مواليه ، قال ابن العربي : والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء قال : وهذه فصول الكلام وأصوله المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له ، والتفريع والتتميم في كتاب المسائل ، والله أعلم .
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان, فقال: "إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه" أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان, وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام "لعلهم يرجعون" أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل: "وجعلها كلمة باقية في عقبه" يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها, وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة, ثم قال جل وعلا: "بل متعت هؤلاء" يعني المشركين "وآباءهم" أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم "حتى جاءهم الحق ورسول مبين" أي بين الرسالة والنذارة "ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون" أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفراً وحسداً وبغياً "وقالوا" أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد, وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي: يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد: يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضاً أنهم يعنون عتبة بن ربيعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جباراً من جبابرة قريش, وعنه رضي الله عنهما أنهم يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي, وعن مجاهد: يعنون عتبة بن ربيعة بمكة وابن عبد ياليل بالطائف. وقال السدي: عنوا بذلك الوليد بن المغيرة وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي, والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان قال الله تبارك وتعالى راداً عليهم في هذا الإعتراض "أهم يقسمون رحمة ربك ؟" أي ليس الأمر مردوداً إليهم. بل إلى الله عز وجل, والله أعلم حيث يجعل رسالاته, فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً. وأشرفهم بيتاً, وأطهرهم أصلاً.
ثم قال عز وجل مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة, فقال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" الاية. وقوله جلت عظمته: "ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً" قيل معناه ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا, وهذا إلى هذا, قاله السدي وغيره. وقال قتادة والضحاك ليملك بعضهم بعضاً وهو راجع إلى الأول: ثم قال عز وجل: "ورحمة ربك خير مما يجمعون" أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا, ثم قال سبحانه وتعالى: "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة" أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم "لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج" أي سلالم ودرجاً من فضة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم "عليها يظهرون" أي يصعدون ولبيوتهم أبواباً أي أغلاقاً على أبوابهم "وسرراً عليها يتكئون" أي جميع ذلك يكون فضة "وزخرفاً" أي وذهباً, قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.
ثم قال تبارك وتعالى: "وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا" أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى, أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الاخرة, وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافراً منها شيئاً" ثم قال سبحانه وتعالى: " والآخرة عند ربك للمتقين " أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم, ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه, فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: "أو في شاك أنت يا ابن الخطاب ؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الاخرة". وفي الصحيحين أيضاً وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الاخرة" وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتهم كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً" قال الترمذي: حسن صحيح.
28- "وجعلها كلمة باقية في عقبه" الضمير في جعلها عائد إلى قوله: "إلا الذي فطرني" وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه، وفاعل جعلها إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله: " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " الآية، وقيل الفاعل هو الله عز وجل: أي وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة: هي الإسلام. قال ابن زيد: الكلمة هي قوله: "أسلمت لرب العالمين" وجملة "لعلهم يرجعون" تعليل للجعل: أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة: أي لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها إلخ. قال السدي: لعلهم يتوبون. فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله.
28. " وجعلها "، يعني هذه الكلمة، " كلمةً باقيةً في عقبه "، قال مجاهد و قتادة : يعني كلمة التوحيد، وهي (( لا إله إلا الله )) كلمة باقية في عقبه في ذريته. قال قتادة : لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده. وقال القرظي : يعني: وجعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته، وهو قوله عز وجل: " ووصى بها إبراهيم بنيه " (البقرة-132).
وقال ابن زيد : يعني قوله: " أسلمت لرب العالمين " (البقرة-131)، وقرأ: " هو سماكم المسلمين " (الحج-78).
" لعلهم يرجعون "، لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم. وقال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل.
28-" وجعلها " وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو الله كلمة التوحيد . " كلمةً باقيةً في عقبه " في ذريته فيكون فيهم أبداً من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ، وقرئ " كلمة " و " في عقبه " على التخفيف و في عاقبه أي فيمن عقبه . " لعلهم يرجعون " يرجع من أشرك بدعاء من وحد .
28. And he made It a word enduring among his seed, that haply they might return.
28 - And he left it as a Word to endure among those who came after him, that they may turn back (to God).