(وإن كنتم على سفر) أي مسافرين وتداينتم (ولم تجدوا كاتبا فرُهُنٌ) وفي قراءة {فرِهان} جمع رَهْن (مقبوضة) تستوثقون بها ، وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ووجود الكاتب فالتقيد بما ذكر لأن التوثيق فيه أشد وأفاد قوله مقبوضة اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله (فإن أمن بعضكم بعضا) أي الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين (والله بما تعملون عليم) لا يخفى عليه شيء منه
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.
فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأول هذه الآية: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" ليشهدوا لرجل على رجل.
حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة.
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان عن جابر، عن الشعبي قال: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"- قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد.
وقال آخرون: معنى ذلك: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" -للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه، والقيام بما عنده من الشهادة- من الإجابة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الحسن يقول: جمعت أمرين: لا تأب اذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحل له أن يأبى إذا ما دعي.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليقيمها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" -للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي- من إجابته إلى القيام بها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: إذا كانوا قد أشهدوا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت عندك شهادة فدعيت.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت شهادة فأقمها. فإذا دعيت لتشهد، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب.
حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح، عن عمران بن حدير قال: قلت لـأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يشهد.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا". قال: لإقامة الشهادة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة، يعني قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا".
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حرة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجب إن شئت.
حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئت.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هو الذي عنده الشهادة.
حدثنى موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد، إذا كان فارغاً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لـعطاء: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضر إنساناً أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لـعطاء: ما شأنه؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثير.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويقيمها.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا يأب الشهداء"، قال: كان الحسن يتأولها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهد لرجل فشهد، والكاتب الذي يكتب الكتاب- دعوا إلى مقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه.
وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجل والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، ولكنه أمر ندب لا فرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو العالية العبدي إسمعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد.
حدثني أبو العالي قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العصري، عن عطاء بمثله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: [معنى] ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له.
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم "الشهداء". وغير جائز أن يلزمهم اسم "الشهداء"، إلا وقد استشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم "الشهداء". فأما قبل أن يستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم شهداء. لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له شاهد، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد أقام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم، كان معلوماً أن المعني بقوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، من وصفنا صفته ممن قد استرعي شهادةً، أو شهد، فدعي إلى القيام بها. لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادةً قبل الإشهاد، غير مستحق اسم شهيد ولا شاهد، لما قد وصفنا قبل.
مع أن في دخول الألف واللام في "الشهداء"، دلالةً واضحةً على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهل الحقوق باستشهادهم بقوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء". وإذ كان ذلك كذلك، كان معلوماً أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمراً لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: ولا يأب شاهد إذا ما دعي.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة، فإن الفرض عليه إجابة داعية إليها، كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرض عليه أن يكتب، كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أن يعلمه ويبينه له. ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإن فرضاً على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حق أخيه المسلم.
والشهداء جمع شهيد.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغير الحق، يعني: قليله، أو كبيره -يعني: أو كثيره- إلى أجله، إلى أجل الحق، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال.
حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد: "ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله"، قال: هو الدين.
ومعنى قوله: "ولا تسأموا": لا تملوا. يقال منه: سئمت فأنا أسام سآمة وسأمةً، ومنه قول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس: كيف لبيد
ومنه قول زهير:
سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش ثمانين عاماً، لا أبالك، يسأم
يعني: مللت.
وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله: "إلى أجله"، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ذلكم"، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.
ويعني بقوله: "أقسط"، أعدل عند الله.
يقال منه: أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطاً، وهو مقسط، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل: قسط فهو يقسط قسوطاً. ومنه قول الله عز وجل: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" [الجن: 15]، يعني: الجائرون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "ذلكم أقسط عند الله"، يقول: أعدل عند الله.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة.
وأصله من قول القائل: أقمت من عوجه، إذا سويته فاستوى.
وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه، لأنه يحوي الألفاظ التي أقر بها البائع والمشتري ورب الدين والمستدين على نفسه، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب. وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصل الحكم ببنهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وأدنى"، وأقرب، من الدنو، وهو القرب.
ويعني بقوله: " أن لا ترتابوا "، أن لا تشكوا في الشهادة، كما:
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي ذلك أدنى أن لا ترتابوا، يقول: أن لا تشكوا في الشهادة.
وهو تفتعل من الريبة.
ومعنى الكلام: ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحق الذي لكم قبل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيراً كان ذلك الحق قليلاً أو كثيراً، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوب لشهادة شهودكم عليه، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوباً.
قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم، ما وجب لهم قبلهم من حق عن مبايعة بالنقود الحاضرة يداً بيد، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض، إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقداً، ما وجب قبل مبايعيه قبل المفارقة، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتاباً بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره: "إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء، " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها "، يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها- يعني التجارة الحاضرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، يقول: معكم بالبلد ترونها، فتأخذ وتعطي، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله"، إلى قوله: " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها "، قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، وأمر ما كان يداً بيد أن يشهد عليه، صغيراً كان أو كبيراً، ورخص لهم أن لا يكتبوه.
واختلفت القرأة في قرأة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: إلا أن تكون تجارة حاضرة بالرفع.
وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. وذلك وإن كان جائزاً في العربية، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع كان، وتضمر معها في كان مجهولاً فتقول: إن كان طعاماً طيباً فأتنا به، وترفعها فتقول: إن كان طعام طيب فأتنا به، فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها، فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءة بغيره، الرفع في التجارة الحاضرة، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصباً عنهم. ولا يعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصباً قول الشاعر:
أعيني هلا تبكيان عفاقا إذا كان طعناً بينهم وعناقا
وقول الآخر:
ولله قومي: أي قوم لحرة إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا!!
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها. و كان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرها. وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة كان لمنصوب ومرفوع. ووجدوا النكرة يتبعها خبرها، وأضمروا في كان مجهولاً، لاحتمالها الضمير.
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك: "إلا أن تكون تجارة حاضرة"، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ يكون بالياء، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثاً بنعتها أو خبرها، أنثوا كان مرة، وذكروها أخرى، فقالوا: إن كانت جارية صغيرة فاشتروها- وإن كان جارية صغيرة فاشتروها، تذكر كان -وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت- أحياناً، وتؤنث أحياناً.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: إلا أن تكون تجارةً حاضرةً مرفوعة فيه التجارة الحاضرة، لأن تكون، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن توجد أو تقع أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازماً، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذ لم يكن يجد لـكان منصوباً، ووجد التجارة الحاضرة مرفوعة، وأغفل جواز قوله: تديرونها بينكم أن يكون خبراً لـكان، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.
والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصح: وهو أن يكون في قوله: "تديرونها بينكم" وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر كان، و التجارة الحاضرة اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع التجارة الحاضرة، لأن خبر النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرةً بينكم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونسائه، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يداً بيد ونقداً، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئاً أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرة على كل من الفريقين: أما على المشتري، فأن يجحد البائع البيع، وله بينة على ملكه ما قد باع، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القول حينئذ قول البائع مع يمينه ويقضى له به، فيذهب مال المشتري باطلاً، وأما على البائع، فأن يجحد المشتري الشراء وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلف على ذلك، فيبطل حق البائع قبل المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.
ثم اختلفوا في معنى قوله: "وأشهدوا إذا تبايعتم"، أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟
فقال بعضهم: هو ندب، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله: "وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيت قول الله عز وجل: "وأشهدوا إذا تبايعتم"؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد عليه فلا بأس.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل: "وأشهدوا إذا تبايعتم"، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، أترى بأساً أن لا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي: "وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا.
وقال آخرون: الإشهاد على ذلك واجب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها "، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر الله، ما كان يداً بيد أن يشهدوا عليه، صغيراً كان أو كبيراً.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه. وذلك في المقام.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن الإشهاد على كل مبيع ومشترىً، حق واجب وفرض لازم، لما قد بينا: من أن كل أمر لله، ففرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد.
وقد دللنا على وهي قول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، فيما مضى فأغنى عن إعادته.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: ذلك نهي من الله الكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله، فيكتب هذا ما لم يملله المملي، ويشهد هذا بما لم يستشهده المستشهد.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، "ولا يضار كاتب" فيكتب ما لم يمل عليه، "ولا شهيد" فيشهد ما لم يستشهد.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: "ولا يضار كاتب" فيزيد شيئاً أو يحرف، "ولا شهيد"، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهد إلا بحق.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهد في شهادته، لا ينقص منها حقاً ولا يزيد فيها باطلاً. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقاً ولا يزيدن فيه باطلاً.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: "ولا يضار كاتب" فيكتب ما لم يملل، "ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: "ولا يضار كاتب" فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليل، ولا يدرون أي شيء يكتب، فيضار فيكتب غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد يضار فيحول شهادته، فيبطل حقهم.
قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارر كاتب ولا شهيد، ثم أدغمت الراء في الراء، لأنهما من جنس، وحركت إلى الفتح وموضعها جزم، لأن الفتح أخف الحركات.
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: أن يؤديا ما قبلهما.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لـعطاء: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"؟ قال: لا يضار، أن يؤديا ما عندهما من العلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قالا: واجب على الكاتب أن يكتب، "ولا شهيد"، قالا: إذا كان قد شهد، اقبله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يضار المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد. وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضارر، على وجه ما لم يسم فاعله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: كان عمر يقرأ: ولا يضارر كاتب ولا شهيد.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: ولا يضارر.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ: ولا يضارر كاتب ولا شهيد، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته، وقال مجاهد: لا يقم عن شغله وحاجته، فيجد في نفسه أو يحرج.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت! فيضاره بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم".
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد، فيقول: خلوا سبيله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولاً، يقول: فلا يضاره.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتب لي، واشهد لي! فيقول: إن لي حاجة فالتمس غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمرت أن تكتب لي! فهذه المضارة، ويقول: دعه والتمس غيره. والشاهد بتلك المنزلة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد، فيقول الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقول الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل: لا يضارهما.
حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلاً له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته، ولا شاهداً من شهودك وهو مشغول فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته وأنت تجد غيره.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: لما نزلت هذه الآية: "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول، أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي! فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول، أو: لي حاجة! فيلزمه ويقول: قد أمرت أن تتبعني! فيضاره بذلك وهو يجد غيره، فأنزل الله عز وجل: "ولا يضار كاتب ولا شهيد".
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي. "ولا شهيد"، كذلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، بمعنى: ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ، على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه: افعلوا، أو: لا تفعلوا، إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله: "وليكتب بينكم كاتب"، وكقوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، وما أشبه ذلك. فالوجه -إذ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"- بأن يكون الأمر مردوداً على المستكتب والمستشهد، أشبه منه بأن يكون مردوداً على الكاتب والشهيد. ومع ذلك، فإن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما. لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله: "ولا يضار"، بل النهي بقوله: "ولا يضار"، نهي للغائب غير المخاطب. فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيراً لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلاً عنه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضاروا الكاتب أو الشاهد، وما نهيتم عنه من ذلك، "فإنه فسوق بكم"، يعني: إثم بكم ومعصية.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، والفسوق المعصية.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، الفسوق العصيان.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي، ويضار شهيد فيحول شهادته ويغيرها، "فإنه فسوق بكم"، يعني: فإنه كذب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتب فحول كتابه فكذب، وكذب الشاهد فحول شهادته. فأخبرهم الله أنه كذب.
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعني بقوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد"، إنما معناه: لا يضارهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية.
فقوله: "وإن تفعلوا"، إنما هو إخبار من يضارهما بحكمه فيهما، وأن من يضارهما فقد عصى ربه وأثم به، وركب ما لا يحل له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "واتقوا الله"، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه، ويعني بقوله: "ويعلمكم الله"، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به، "والله بكل شيء عليم"، يعني: ببكل شيء] من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: "ويعلمكم الله"، قال: هذا تعليم علمكموه، فخذوا به.
فيه أربع وعشرون مسألة :
الأولى : لما ذكر الله تعالى الندب إلى الأشهاد والكتب لمصحلة حفظ الأموال والأبدان ، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب ، وجعل لها الرهن ، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار ، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر . فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات اشغال الناس وبالليل ، وايضاً فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن .
"وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال :إنما يريد محمد أن يهذب بمالي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي" فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي بيانه آنفاً .
الثانية : قال جمهور من العلماء : الرهن في السفر بتص التنزيل ، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا صحيح . وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى ، إذ قد تترتب الأعذار في الحظر ، ولم يرو عن أحد منعة في الحضر سوى مجاهد والضحاك و داود ، متمسكين بالآية . ولا حجة فيها ، لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره . وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعاً له من حديد" . وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال :
"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير لأهله" .
الثالثة : قوله تعالى : "ولم تجدوا كاتبا" قرأ الجمهور كاتبا بمعنى رجل يكتب . وقرأ ابن عباس وابي و مجاهد والضحاك و عكرمة وأبو العالية ولم تجدوا كتابا . قال أبو بكر الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مداداً يعني في الأسفار . وروي عن ابن عباس كتابا . قال النحاس : هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها ، وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن ، ونسق الكلام على كاتب ، قال الله عز وجل قبل هذا :"وليكتب بينكم كاتب بالعدل" وكتاب يقتضي جماعة . قال ابن عطية : كتاباً يحسن من حيث لكل نازلة كاتب ، فقيل للجماعة : ولم تجدوا كتاباً . وحكى المهدوي عن ابي العالية أنه قرأ كتبا وهذا جمع كتاب من حيث النوزال مختلفة . وأما قراءة أبي وابن عباس كتابا فقال النحاس و مكي : هو جمع كاتب كقائم وقيام . مكي : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة . ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق ، ونفي الكتاب أيضاً يقتضي نفي الكتاب ، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف .
الرابعة : قوله تعالى : "فرهان مقبوضة" وقرأ أبو عمرو و أبن كثير فرهن بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء . وقال الطبري : تأول قوم أن رهنا بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجاج عن الفراء . وقال المهدوي : فرهان ابتداء والخبر محذوف ، والمعنى فرهان مقبوضة يكفي من ذلك . قال النحاس : وقرأ عاصم بن ابي النجود فرهن بإسكان الهاء ، ويروى عن أهل مكة . والباب في هذا رهان كما يقال : بغل وبغال وكبش وكباش ، ورهن سبيله أن يكون جمع رهان ، مثل كتاب وكتب . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سقف وسقف ، وحلق وحلق ، وفرش وفرش ، ونشر ونشر ،وشبهه . ورهن بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سهم حشر ، أي دقيق ، وسهام حشر . والأول أولى ، لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت . وقال أبو علي الفارسي : وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ،فلو جاء كان قياسه أفعلاً ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير ، كما استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وقد استغنى ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين وهما فعل وفعال . الأخفش : فعل على فعل قبيح وهو قليل شاذ قال : وقد يكون رهن جمعاً للرهان ، كأنه يجمع رهن على رهان ، ثم يجمع رهان على رهن ، مثل فراش وفرش .
الخامسة : معنى الرهن : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم ، هكذا حده العلماء ، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار . وقال ابن سيده : ورهنه أي أدامه ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر :
الخبز واللحم لهن راهن وقهوة راووقها ساكب
قال الجوهري : ورهن الشيء رهناً أي دام . وأرهنت لهم الطعام والشراب أدمته لهم ، وهو طعام راهن . والراهن : الثابت ، والراهن : المهزول من الإبل والناس ، قال :
إما تري جسمي خلا قد رهن هزلا وما مجد الرجال في السمن
قال ابن عطية : ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن : أرهنت إرهاناً ، حكاه بعضهم . وقال أبو علي : أرهنت في المغالاة ، وأما في القرض والبيع فرهنت . وقال أبو زيد : أرهنت في السلعة إرهاناً : غاليت بها ، وهو في الغلاء خاصة . قال :
عيدية أرهنت فيها الدنانير .
يصف ناقة : والعيد بطن من مهرة وإبل مهرة موصوفة بالنجابة . وقال الزجاج : يقال في الرهن : رهنت وأرهنت ، وقاله ابن الإعرابي و الأخفش . قال عبد الله بن همام السلولي :
فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكا
قال ثعلب : الرواة كلهم على أرهنتهم ، على أنه يجوز رهنته وأرهنته ، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم ، على أنه عطف بفعل مستقبل على فعل ماض ، وشبهه بقولهم : قمت وأصك وجهه ، وهو مذهب حسن ، لأن الواو واو الحال ، فجعل أصك حالاً للفعل الأول على معنى قمت صاكاً وجهه ، أي تركته مقيماً عندهم ، لأنه لا يقال : أرهنت الشيء ، وإنما يقال : رهنته . وتقول : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه : أرهنت . قال ابن الكسيت :ارهنت فيها بمعنى أسلفت . والمرتهن : الذي يأخذ الرهن . والشيء مرهون ورهين ، والأنثى رهينة . وراهنت فلاناً على كذا مراهنة . خارطته . وأرهنت به ولدي إرهاناً : أخطرتهم به خطراً . والرهينة واحدة الرهائن ، كله عن الجوهري . ابن عطية : ويقال بلا خلاف في البيع والقرض : رهنت رهناً ، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول : رهنت رهناً ، كما رهنت ثوباً .
السادسة : قال أبو علي : ولما كان الرهن بمعنى الثبوت ، والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه ، لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له .
قلت : هذا هو المعتمد عندنا في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن ، وقاله ابو حنيفة ، غير أنه قال :إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال الشافعي : إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقاً لا يبطل حكم القبض المتقدم ، ودليلنا "فرهان مقبوضة" ، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة ، فلا يصدق عليه حكماً ، وهذا واضح .
السابعة : إذا رهنه قولاً ولم يقبضه فعلاً لم يوجب ذلك حكما، لقوله تعالى : "فرهان مقبوضة" . قال الشافعي : لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض ، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم ، وهذا ظاهر جداً . وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، لقوله تعالى : "أوفوا بالعقود" وهذا عقد ، وقوله "بالعهد" وهذا عهد . وقوله عليه السلام :
"المؤمنون عند شروطهم" وهذا شرط ، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته . وعندهما شرط في لزومه وصحته .
الثامنة : قوله تعالى : "مقبوضة" يقتضي بينونة المرتهن بالرهن . وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ،وكذلك على قبض وكيله . واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء . قبض العدل قبض . وقال أبن ابي ليلى و قتادة و الحكم و عطاء : ليس بقبض ، ولا يكون مقبوضاً إلا إذا كان عند المرتهن ، ورأوا ذلك تعبداً . وقول الجمهور أصح من جهة المعنى ، لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضاً لغة وحقيقة ، لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل ، وهذا ظاهر .
التاسعة : ولو وضع الرهن على يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده ، لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه . والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن .
الحادية عشرة : ورهن ما في الذمة جائز عند علمائنا ، لأنه مقبوض خلافاً لمن منع ذلك ، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه . قال ابن خويز منداد : وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه ، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة ، لأن بيعه جائز ، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهناً ، قياساً على سلعة موجودة . وقال من منع ذلك : لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن ، لأنه لا بد أن يستوفى الحق منه عند المحل ، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين .
الثانية عشرة : روى البخاري عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" . وأخرجه أبو داود وقال بدل يشرب في الموضعين : يحلب . قال الخطابي :هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب ، هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟
قلت : قد جاء ذلك مبيناً مفسراً في حديثين ، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك فروى الدار قطني من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إذاكانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته" . أخرجه عن أحمد بن علي بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن ابي هريرة . وهو قول أحمد و إسحاق : أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة . وقال ابو ثور : إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن . وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد . وقاله الأوزاعي و الليث . الحديث الثاني خرجه الدار قطني أيضاً ، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه ـ من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن ابي ذئب عن الزهري عن المقبري عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه" . وهو قول الشافعي و الشعبي و ابن سيرين ، وهو قول مالك وأصحابه . قال الشافعي : منفعة الرهن للراهن ، ونفقته عليه ، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة . قال الخطابي : وهو أولى الأقوال وأصحها ، بدليل قوله عليه السلام : "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" . قال الخطابي :وقوله :"من صاحبه أي لصاحبه" . والعرب تضع من موضع اللام ، كقولهم :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
قلت : قد جاء صريحاً لصاحبه فلا حاجة للتأويل . وقال الطحاوي : كان ذلك وقت كون الربا مباحاً ، ولم ينه عن قرض جر منفعة ، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين ، ثم حرم الربا بعد ذلك . وقد أجمعت الأمة على أن الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها ، فكذلك لا يجوز له خدمتها . وقد قال الشعبي : لا ينتفع من الرهن بشيء . فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه ، ولايجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ . وقال ابن عبد البر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن . ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه ، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" ما يرده ويقضي بنسخه . وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق ، ما يرده أيضاً ، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا . والله أعلم .
وقال ابن خويز منداد : ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان : إن كان من قرض لم يجز ، وإن كان من بيع أو إجارة جاز ، لأنه يصير بائعاً للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة معلومة فكأنه بيع وإجارة ، وأما في القرض فلأنه يصير قرضاً جر منفعة ، ولأن موضوع القرض أن يكون قربة ، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا .
الثالثة عشرة : لا يجوز غلق الرهن ، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله . وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "لا يغلق الرهن" هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر ، أي ليس يغلق الرهن . تقول : أغلقت الباب فهو مغلق . وغلق الرهن في يد مرتهنه إذا لم يفتك ، قال الشاعر :
أجارتنا من يجتمع يتفرق ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وقال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
الرابعة عشرة : روى الدار قطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه" . زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات ، وهذا إسناد حسن . وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يغلق الرهن" . قال أبو عمر : وهكذا رواه كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت ، إلا معن بن عيسى فإنه وصله ، ومعن ثقة ، إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبد الحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن بن عيسى . وزاد فيه ابو عبد الله عمروس عن الأبهري بإسناده : "له غنمه وعليه غرمه" . وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها ، فرفعها ابن ابي ذئب ومعمر وغيرهما . ورواه ابن وهب وقال : قال يونس قال ابن شهاب : وكان سعيد بن المسيب يقول : الرهن ممن رهنه ، له غنمه وعليه غرمه ، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أن معمراً ذكره عن ابن شهاب مرفوعاً ، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب . وتابعه على رفعه يحيى بن ابي انيسة ويحيى ليس بالقوي . وأصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل ، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها . وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم وإن اختلفوا في تأويله ومعناه . ورواه الدار قطني ايضاً عن إسماعيل بن عياش عن ابن ابي ذئب عن الزهري عن سعيد عن ابي هريرة مرفوعاً . قال أبو عمر : لم يسمعه إسماعيل من ابن ابي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن ابي ذئب ، وعباد عندهم ضعيف لا يحتج به . وإسماعيل عندهم أيضاً غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده ، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم ، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ففي حديثه خطأ كثير واضطراب .
الخامسة عشرة : نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن ، أو كان نسلا كالولادة والنتاج ، وفي معناه فسيل النخل ، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه . والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات ، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار ، لأنها ليست تبعاً للأمهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها ، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج . والله أعلم بصواب ذلك .
السادسة عشرة : ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس ، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء ، قاله مالك وجماعة من الناس . وروي عن مالك خلاف هذا ـ وقاله عبد العزيز بن ابي سلمة ـ أن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء ، لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء ، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي ، لم يختلف قول مالك في هذا الباب ، فكذلك الرهن . والله أعلم .
السابعة عشرة : قوله تعالى : "فإن أمن بعضكم بعضا" الآية . شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل . يعني إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه ائتمن . وقوله "فليؤد" من الأداء مهموز ، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزة فتقلب الهمزة واواً ولا تقلب ألفاً ولا تجعل بين بين ، لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً . وهو أمر معناه الوجوب ، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : "أمانته" الأمانة مصدر سمى به الشيء الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليها نسبة ، كما قال تعالى : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : "وليتق الله ربه" أي في ألا يكتم من الحق شيئاً . وقوله : "ولا تكتموا الشهادة" تفسير لقوله : ولا يضارر بكسر العين . نهى الشاهد عن ان يضر بكتمان الشهادة ، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد . وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق . وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر حيثما استخبر ، قال : ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي . وقرأ أبو عبد الرحمن ولا يكتموا بالياء جعله نهياً للغائب .
الموفية عشرين : إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية ، فإن أداها اثنان وأجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزأ بها تعين المشيء إليه حتى يقع الإثبات . وهذا يعلم بدعاء صاحبها ، فإذا قال له : أحيي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام ، فعبر بالبعض عن الجملة ، وقد تقدم في أول السورة وقال الكيا : لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا . فقوله : "آثم قلبه" مجاز ، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد ، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني . يقال : أثم القلب سبب مسخه ، والله تعالى إذا مسخ قلباً جعله منافقاً وطبع عليه ، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة . و قلبه رفع بـ أثم و أثم خبر إن ، وإن شئت رفعت آثماً بالابتداء ، و قلبه فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن . وإن شئت رفعت آثماً على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير . وإن شئت كان قلبه بدلاً من أثم بدل البعض من الكل . وإن شئت كان بدلاً من المضمر الذي في أثم . وتعرضت هنا ثلاث مسائل تتمة أربع وعشرين .
الأولى : أعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين ، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق ، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين . فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى : "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر" الآية . فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين ، قال الله تعالى : "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم" الآية .
الثانية : روى البخاري عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" . وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم :
أنها استدانت ، فقيل : يا أم المؤمنين ، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه" . وروى الطحاوي و أبو جعفر الطبري والحارث بن ابي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها ، قالوا : يا رسول الله ، وما ذاك ؟ قال : الدين" . وروى البخاري عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره :
"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال" . قال العلماء : ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه . وهو مأخوذ من قول العرب : حمل مضلع أي ثقيل ، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل ، قال هصاحب العين . وقال صلى الله عليه وسلم :
"الدين شين الدين" . وروى عنه أنه قال :
"الدين هم بالليل ومذلة بالنهار" . قال علماؤنا : وإنما كان شيناً ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه ، والتذلل للغريم عند لقائه ، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه . وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف ، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب ، أو يحلف له فيحنث ، إلى غير ذلك ولهذا :
"كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم ، وهو الدين . فقل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟ قفال :إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" . وأيضاً فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به ، كما قال عليه السلام :
"نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه" . وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله . والله أعلم .
الثالثة : لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها ، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك ، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم ، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يترعض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم ، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم ، وهذا الفعل مذموم منهي عنه . قال أبو الفرج الجوزي : ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم ،إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا ، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل . فذكر المحاسبي في هذا كلاماً كثيراً ، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره . والحارث عندي أعذر من أبي حامد ، لأن أبا حامد كان أفقه ، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه . قال المحاسبي في كلام طويل له : ولقد بلغني أنه :
لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك . فقال كعب سبحان الله ، وما تخافون على عبد الرحمن ؟ كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيباً . فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً ، فمر بلحي بعير فأخذه بيده ، ثم انطلق يطلب كعباً ، فقيل لكعب : إن أبا ذر يطلبك . فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر . فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان ، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر ، فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية ، تزعم ألا بأس بما تركه عبد الرحمن ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا" . قال المحاسبي : فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال ، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا ، إلى غير ذلك من كلامه . ذكره أبو حامد وشيده وقواه :
بحديث ثعلبة ، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة . قال أبو حامد : فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده ، وإن صرف إلى الخيرات ، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله . فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته ، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى . قال الجوزي : وهذا كله خلاف الشرع والعقل ، وسوء فهم المراد بالمال ، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه ، إذ جعله أقواماً للآدمي وما جعل قواماً للآدمي الشريف فهو شريف ، فقال تعالى : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" . ونهى جل وعز أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال :"فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم" .
"ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، قال لسعد :
إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" . وقال :
"ما نفعني مال كمال ابي بكر" . وقال لعمرو بن العاص :
"نعم المال الصالح للرجل الصالح" . ودعا لأنس ، وكان في آخر دعائه :
"اللهم أكثر ماله وولده وبار له فيه" . وقال كعب :
"يا رسول الله ، إن من توتبي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . فقال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" . قال الجوزي : هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح ، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة ، وأن حبسه ينافي التوكل ، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته ، وأن خلقاً كثيراً اجتنبوه لخوف ذلك ، وأن جمعه من وجهه ليعز ، وأن سلامة القلب من الافتنان به تقل ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر ، فلهذا خيف فتنته . فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه ، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده ، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود ، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته ، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم ، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده ، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات . وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه ، فحرصوا عليه وسألوا زيادته .
"ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه . فقال : أعطوه حيث بلغ سوطه" . وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه : اللهم وسع علي . وقال إخوى يوسف : "ونزداد كيل بعير" . وقال شعيب لموسى : "فإن أتممت عشرا فمن عندك" . وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب ، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه ، فقيل له : أما شبعت ؟ فقال : يا رب فقير يشبع من فضلك ؟ وهذا أمر مركوز في الطباع . وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم ، وما ذكره من حديث كعب وابي فمحال ، من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم . وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت ، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه . قال يحيى : لا يحتج بحديثه . والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمسن وعشرين ، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين ، فقد عاش بعد ابي ذر سبع سنين . ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع ، ثم كيف تقول الصحابة : إنا نخاف على عبد الرحمن ، أو ليس الإجماع منعقداً على إباحة جمع المال من حله ، فما وجه الخوف مع الإباحة ؟ أو يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه ؟ هذا قلة فهو وفقه . ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن ، وعبد الرحمن خير من ابي ذر بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة ، فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير . والبهار الحمل . وكان مال الزبير خمسين ألفاً ومائتي ألف .وخلف ابن مسعود تسعين ألفاً . وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على ذاحد . وأما قوله :
"إن عبد الرحمن يحبو حبوا يوم القيامة" فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث ، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة ، أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان ، وقال البخاري : ربما اضطرب حديثه . وقال أحمد : يروي عن أنس أحاديث مناكير ، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، وقال الدار قطني : ضعيف . وقوله "ترك المال الحلال أفضل من جمعه" ليس كذلك ،ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء . وكان سعيد بن المسيب يقول : لا خير فيمن لا يطلب المال ، يقضي به دينه ويصون به عرضه ، فإن مات تركه ميراثاً لمن بعده . وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار ، وخلف سفيان الثوري مائتين وكان يقول : المال في هذا الزمان سلاح . وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء ، وإنما تحاماه قوم منهم إيثاراً للتشاغل بالعبادات ، وجمع الهم فقنعوا باليسير . فلو قال هذا القائل : إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم .
قلت : ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها ، قال صلى الله عليه وسلم :
"من قتل دون ماله فهو شهيد" . وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى .
يقول تعالى: "وإن كنتم على سفر" أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى "ولم تجدوا كاتباً" يكتب لكم, قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً, فرهان مقبوضة, أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق, وقد استدل بقوله: "فرهان مقبوضة" على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور, واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضاً في يد المرتهن, وهو رواية عن الإمام أحمد, وذهب إليه طائفة, واستدل آخرون من السلف بهذه الاية, على أنه لا يكون الرهن مشروعاً إلا في السفر , قاله مجاهد وغيره, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله, وفي رواية: من يهود المدينة. وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي, وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير, ولله الحمد والمنة, وبه المستعان.
وقوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها. وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا: وقوله: "وليتق الله ربه" يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة, عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
قوله: "ولا تكتموا الشهادة" أي لا تخفوها وتغلوها, ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك, ولهذا قال "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" قال السدي: يعني فاجر قلبه, وهذه كقوله تعالى: " ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين " وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً" وهكذا قال ههنا "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم".
قوله: 283- "وإن كنتم على سفر" لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ونص على حالة السفر فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة: أي فإن كنتم مسافرين "ولم تجدوا كاتباً" في سفركم "فرهان مقبوضة" قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت ينص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعاً له من يهودي". وقرأ الجمهور كاتباً أي رجلاً يكتب لكم. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية كتاباً قال ابن الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مداداً: يعني في الأسفار. وقرأ أبو عمرو وابن كثير فرهن بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان. قاله الفراء والزجاج وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود فرهن بفتح الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور رهان؟ قال الزجاج: يقال في الرهن رهنت أو أرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي: يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض والبيع فرهنت: وقال ثعلب: الرواة كلهم في قول الشاعر:
فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكاً
على أرهنتهم على أنه يجوز رهنته وأرهنته إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله: قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت: أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله: "فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته" أي إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق لحسن ظنه به وأمانته لديه واستغنى بأمانته عن الارتهان "فليؤد الذي اؤتمن" وهو المديون "أمانته" أي الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة وأضافها إلى الذين عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة، وقرئ ايتمن بقلب الهمزة ياءً، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ، لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها "وليتق الله ربه" في أن لا يكتم من الحق شيئاً. قوله: "ولا تكتموا الشهادة" نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة، وهو في حكم التفسير لقوله: "ولا يضار كاتب" أي لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين. قوله:
"ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله، وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من، وقرئ قلبه بالنصب كما في قوله: "إلا من سفه نفسه".
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين" قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال: أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى " ولا يأب الشهداء " يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة أو كانت عنده شهادة، فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي، ثم قال بعد هذا: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عن ذلك. وقال: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم" يعني معصية. قال: ومن الكبائر كتمان الشهادة، لأن الله تعالى يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "ولا يأب كاتب" قال: واجب على الكاتب أن يكتب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت الكتابة عزيمة فنسخها: "ولا يضار كاتب ولا شهيد". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. قال: "فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً" قال: هو الجاهل "أو ضعيفاً" قال: هو الأحمق. وأخرج ابن جرير عن الضحاك والسدي في قوله: "سفيهاً" قالا: هو الصبي الصغير. وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس "فليملل وليه" قال صاحب الدين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ولي اليتيم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: ولي السفيه أو الضعيف. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد في قوله: "من رجالكم" قال: من الأحرار. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "ممن ترضون من الشهداء" قال: عدول. وأخرج الشافعي والبيهقي عن مجاهد قال: عدلان حران مسلمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أن تضل إحداهما" يقول: أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة "فتذكر إحداهما الأخرى" يعني تذكرها التي حبطت شهادتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يأب الشهداء" قال: إذا كانت عندهم شهادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله: "ولا يأب الشهداء". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عائشة في قوله: "أقسط عند الله" قالت: أعدل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" قال: يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة فيقولان: إنا على حاجة، فيقول: إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما. وأخرج ابن جرير عن طاوس "لا يضار كاتب"، فيكتب ما لم يمل عليه "ولا شهيد" فيشهد بما لم يستشهد. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وإن كنتم على سفر" الآية، قال: من كان على سفر فبايع بيعاً إلى أجل فلم يجد كاتباً فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لا يكون الرهن إلا في السفر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضاً. وأخرج البخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " حتى بلغ "فإن أمن بعضكم بعضاً" قال: هذه نسخت ما قبلها. وأقول: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ، فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "آثم قلبه" قال: فاجر قلبه. وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.
283. " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة " قرأ ابن كثير و أبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء، وقرأ الباقون فرهان، وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال، والرهن جمع الرهان جمع الجمع، قاله الفراء و الكسائي ، وقال أبو عبيد وغيره: هو جمع الرهن أيضاً مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقاً بينهما وبين رهان الخيل، وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهوناً لتكون وثيقة لكم بأموالكم، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، وقوله " فرهان مقبوضة " أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقياً، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب، وقال مجاهد : لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط.
والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب " فإن أمن بعضكم بعضاً " وفي حرف أبي (( فإن ائتمن )) يعني فإن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئاً لحسن ظنه به.
" فليؤد الذي اؤتمن أمانته " أي فليقضه على الأمانة " وليتق الله ربه " في أداء الحق، ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال: " ولا تكتموا الشهادة " إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " أي فاجر قلبه، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال " فإنه آثم قلبه " وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك " والله بما تعملون " من بيان الشهادة وكتمانها " عليم ".
283-" وإن كنتم على سفر " أي مسافرين ." ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " فالذي يستوثق به رهان ، أو فعليكم رهان ، أو فليؤخذ رهان . وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإرتهان كما ظنه مجاهد و الضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله ، بل لإقامة التوثق للإرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها . والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو فرهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون : وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف . " فإن أمن بعضكم بعضا " أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان . " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به . وقرئ الذي ايتمن بقلب الهمزة ياء ، و الذي أتمن بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم . " وليتق الله ربه " في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات . " ولا تكتموا الشهادة " أيها الشهود ، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم . " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم . والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان ونظيره : العين زانية والأذن زانية . أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه . وقرئ " قلبه " بالنصب كحسن وجهه . " والله بما تعملون عليم " تهديد .
283. If ye be on a journey and cannot find a scribe, then a pledge in hand (shall suffice). And if one of you entrusteth to another let him who is trusted deliver up that which is entrusted to him (according to the pact between them) and let him observe his duty to Allah. Hide not testimony. He who hideth it, verily his heart is sinful. Allah is Aware of what ye do.
283 - If ye are on a journey, and cannot find a scribe, a pledge with possession (may serve the purpose). and if one of you deposits a thing on trust with another, let the trustee (faithfully) discharge his trust, and let him fear his Lord. conceal no t evidence; for whoever conceals it, his heart is tainted with sin. and God knoweth all that ye do.