34 - (لهم عذاب في الحياة الدنيا) بالقتل والأسر (ولعذاب الآخرة أشق) أشد منه (وما لهم من الله) أي عذابه (من واق) مانع
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لهؤلاء الكفار الذين وصف صفتهم في هذه السورة ، عذاب في الحياة الدنيا بالقتل والإسار والآفات التي يصيبهم الله بها ، "ولعذاب الآخرة أشق" ، يقول : ولتعذيب الله إياهم في الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم في الدنيا .
وأشق ، إنما هو أفعل من المشقة .
وقوله : "وما لهم من الله من واق" ، يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء الكفار من أحد يقيهم من عذاب الله إذا عذبهم ، لا حميم ولا ولي ولا نصير ، لأنه جل جلاله لا يعاده أحد فيقهره ، فيتخلصه من عذابه بالقهر ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، وليس يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به فمات على كفره قبل التوبة منه .
قوله تعالى: " لهم عذاب في الحياة الدنيا " أي للمشركين الصادين، بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. " ولعذاب الآخرة أشق " أي أشد، من قولك: شق علي كذا يشق. " وما لهم من الله من واق " أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و ( من) زائدة.
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار, فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك "لهم عذاب في الحياة الدنيا" أي بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً, " ولعذاب الآخرة " أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا "أشق" أي من هذا بكثير, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة" وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه, فإن عذاب الدنيا له انقضاء, وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً, ووثاق لا يتصور كثافته وشدته, كما قال تعالى: " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد ", وقال تعالى: " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ", ولهذا قرن هذا بقوله: "مثل الجنة التي وعد المتقون" أي صفتها ونعتها "تجري من تحتها الأنهار" أي سارحة في أرجائها وجوانبها, وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً, أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا, كقوله: "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة" الاية.
وقوله: "أكلها دائم وظلها" أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء, وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف, وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا, ثم رأيناك تكعكعت, فقال: "إني رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقوداً, ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا". وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا عبيد الله, حدثنا أبو عقيل عن جابر قال: بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا, ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر, فلما قضى الصلاة, قال له أبي بن كعب: يا رسول الله, صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما رأيناك كنت تصنعه, فقال: "إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة, فتناولت منها قطفاً من عنب لاتيكم به, فحيل بيني وبينه, ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه". وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهداً لبعضه, وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة, فقال: فيها عنب ؟ قال: "نعم". قال: فما عظم العنقود ؟ قال: "مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر", رواه الإمام أحمد.
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى, حدثنا علي بن المديني, حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور, عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى". وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأكل أهل الجنة ويشربون, ولا يتمخطون ولا يتغوطون, ولا يبولون, طعامهم جشاء كريح المسك, ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس" رواه مسلم, وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة, سمعت زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ قال: "نعم, والذي نفس محمد بيده, إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة". قال: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة, وليس في الجنة أذى ؟ قال: "تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه" رواه الإمام أحمد والنسائي.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة, فيخر بين يديك مشوياً" وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائراً كما كان بإذن الله تعالى, وقد قال الله تعالى: " وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة ", وقال " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً" وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص, كما قال تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً".
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها" ثم قرأ "وظل ممدود" وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار, ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده: "تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار". كما قال تعالى: " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ". وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه: عباد الله, هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من عبادتكم تقبلت منكم, أو أن شيئاً من خطاياكم غفرت لكم ؟ "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون", والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لا ستقللتم كلكم ما افترض عليكم, أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة "أكلها دائم" رواه ابن أبي حاتم.
ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال 34- "لهم عذاب في الحياة الدنيا" بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك "ولعذاب الآخرة أشق" عليهم من عذاب الحياة الدنيا "وما لهم من الله من واق" يقيهم عذابه، ولا عاصم يعصمهم منه.
34- "لهم عذاب في الحياة الدنيا"، بالقتل والأسر، "ولعذاب الآخرة أشق"، أشد، "وما لهم من الله من واق"، مانع يمنعهم من العذاب.
34."لهم عذاب في الحياة الدنيا"بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب ."ولعذاب الآخرة أشق"لشدته ودوامه." وما لهم من الله "من عذابه أو من رحمته ."من واق"حافظ.
34. For them is torment in the life of the world, and verily the doom of the Hereafter is more painful, and they have no defender from Allah.
34 - For them is a penalty in the life of this world, but harder, truly, is the penalty of the hereafter: and defender have they none against God.