35 - (إنك كنت بنا بصيرا) عالما فأنعمت بالرسالة
"إنك كنت بنا بصيرا" بقول : إنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك من أفعالنا شيء .
وذكر عن عبد الله بن أبي إسحاق أنه كان يقرأ أشدد به أزري بفتح الألف من أشدد "وأشركه في أمري" ، بضم الألف من أشركه ، بمعنى الخبر من موسى عن نفسه ، أنه يفعل ذلك ، لا على وجه الدعاء، وإذا قرىء ذلك كذلك جزم أشدد وأشرك على الجزاء، أو جواب الدعاء، وذلك قراءة لا أرى القراءة بها، وإن كان لها وجه مفهوم ، لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها.
" إنك كنت بنا بصيرا " قال الخطابي : البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى، أي عالماً بنا، ومدركاً لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا كذلك يا رب.
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام, وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الاية الأخرى, وههنا عبر عن ذلك بقوله: "واضمم يدك إلى جناحك" وقال في مكان آخر "واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه" وقال مجاهد : "واضمم يدك إلى جناحك" كفك تحت عضدك, وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها, تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر. وقوله: "تخرج بيضاء من غير سوء" أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم, وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح, فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل, ولهذا قال تعالى: "لنريك من آياتنا الكبرى" وقال وهب : قال له ربه: ادنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة, فاستقر وذهبت عنه الرعدة, وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه.
وقوله: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم, فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه : قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني, وإن معك أيدي ونصري, وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري, فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي, وأمن مكري, وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي, وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني, فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار, فإن أمرت السماء حصبته, وإن أمرت الأرض ابتلعته, وإن أمرت الجبال دمرته, وإن أمرت البحار غرقته, ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لاغني غيري, فبلغه رسالتي, وادعه إلى عبادتي, وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي, وحذره نقمتي وبأسي, وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي, وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى, وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة, ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا, فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني, وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة, تسبه وتتمثل به, وتصد عباده عن سبيله, وهو يمطر عليك السماء, وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب, ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل, ولكنه ذو أناة وحلم عظيم, وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده, فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت, ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة, ولا قليل مني, تغلب الفئة الكثيرة بإذني, ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به, ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين, ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين نظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت, ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما, وكذلك أفعل بأوليائي وقديماً ما جرت عادتي في ذلك, فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العناء, وما ذاك لهوانهم علي ولكن لسيتكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا, واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا, فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع, وسيماهم في وجوههم من أثر السجود, أولئك أوليائي حقاً حقاً, فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك, واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها, وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي, أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي, أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني, أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني, وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والاخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري, رواه ابن أبي حاتم " قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري " هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به, فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم, بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفراً, وأكثرهم جنوداً, وأعمرهم ملكاً, وأطغاهم وأبلغهم تمرداً, بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله, ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره, هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه, ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه, فهرب منهم هذه المدة بكمالها, ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, ولهذا قال: " رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري " أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري, وإلا فلا طاقة لي بذلك " واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي " وذلك لما كان أصابه, من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, كما سيأتي بيانه, وما سأل أن يزول ذلك بالكلية, بل بحيث يزول العي, ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة, ولو سأل الجميع لزال, ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة, ولهذا بقيت بقية, قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين" أي يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري "واحلل عقدة من لساني" قال: حل عقدة واحدة. ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه, وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن عثمان , حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر , حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له: فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك, ولست تعرب في قراءتك, فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال: نعم. قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه, ولم يزد عليها, هذا لفظه.
وقوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه, وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن نمير , حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه , عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر, فنزلت ببعض الأعراب, فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري. قالت: فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه, قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة, فقلت: صدق والله. قلت: وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: "وكان عند الله وجيهاً".
وقوله: "اشدد به أزري" قال مجاهد : ظهري, " وأشركه في أمري " أي في مشاورتي " كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا " قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقوله: "إنك كنت بنا بصيراً" أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة, وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك.
35- "إنك كنت بنا بصيراً" البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا: أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه إياها ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وأهش بها على غنمي" قال: أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : " ولي فيها مآرب " قال : حوائج. وأخرج ابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام. وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله: "فألقاها فإذا هي حية تسعى" قال: ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "سنعيدها سيرتها الأولى" قال: حالتها الأولى. وأخرجا عنه أيضاً
"من غير سوء" قال من غير برص. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " قال: كان أكبر من موسى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأشركه في أمري" قال نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.
35. " إنك كنت بنا بصيراً "، خبيراً عليماً.
35ـ " إنك كنت بنا بصيرا " عالماً بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا ، وأن هرون نعم المعين لي فيما أمرتني به .
35. Lo! Thou art ever Seeing us.
35 - For Thou art he that (ever) regardeth us.