(فتقبلها ربها) أي قبل مريم من أمها (بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام وأتت بها أمها الأحبار سَدَنة بيت المقدس فقالت: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالوا لا حتى نقترع فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف كما قال تعالى (وكفَلَها زكرياءُ) ضمها إليه وفي قراءة بالتشديد ونصب زكريا ممدودا ومقصورا والفاعل الله (كلما دخل عليها زكريا المحراب) الغرفة وهي أشرف المجالس (وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى) من أين (لك هذا قالت) وهي صغيرة (هو من عند الله) يأتيني به من الجنة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) رزقا واسعا بلا تبعة
قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبل مريم من أمها حنة، وتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها، "بقبول حسن".
والقبول مصدر من: قبلها ربها، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كان على لفظه لكان: فتقبلها ربها تقبلاً حسناً. وقد تفعل العرب ذلك كثيراً: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: تكلم فلان كلاماً، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: تكلم فلان تكلماً. ومنه قوله: "وأنبتها نباتا حسنا"، ولم يقل إنباتا حسناً.
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في قبول، وكان القياس الضم، لأنه مصدر مثل: الدخول، والخروج. قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يشبهه. حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو وأما قوله: "وأنبتها نباتا حسنا"، فإن معناه: وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً، حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة، كما:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل: "فتقبلها ربها بقبول حسن"، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرها فيها، "وأنبتها"، قال: نبتت في غذاء الله.
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: "وكفلها".
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: وكفلها مخففة الفاء. بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتباراً بقول الله عز وجل: "يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم" [آل عمران: 44].
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. "وكفلها زكريا" بمعنى: وكفلها الله زكريا.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: "وكفلها" مشددة.
قوله تعالى : " فتقبلها ربها بقبول حسن " المعنى : سلك بها طريق السعداء ، عن ابن عباس . وقال قوم : معنى التقبل التكفل بالتربية والقيام بشأنها . وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار . " وأنبتها نباتا حسنا " يعنى سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد والقبول والنبات مصدران على غير المصدر ، والأصل تقبلا وإنباتا . قال الشاعر :
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك ، لكن لما قال أنبتها دل على نبت ، كما قال امرؤ القيس :
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فدلت صعبة أي إذلال
وإنما مصدر ذلت ذل ، ولكنه رده على معنى أذللت ، وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب . فمعنى تقبل وقبل واحد ، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن . ونظيره قول رؤبة :
وقد تطويت إنطواء الحضب .
الأفعى لأن معنى تطويت وانطويت واحد ، ومثله قول القطامي :
وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا
لأن تتبعت واتبعت واحد . وفي قراءة ابن مسعود وأنزل الملائكة تنزيلا لأن معنى نزل وأنزل واحد . وقال المفضل : معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا . ومراعاة المعنى أولى كما ذكرنا . والأصل في القبول الضم ، لأنه مصدر مثل الدخول والخروج ، والفتح جاء في حروف قليلة ، مثل الولوع والوزوع ، هذه الثلاثة لا غير ، قال أبو عمرو و الكسائي و الأئمة . وأجاز الزجاج بقبول بضم القاف على الأصل .
قوله تعالى : " وكفلها زكريا " أي ضمها إليه . أبو عبيدة : ضمن القيام بها . وقرأ الكوفيون وكفلها بالتشديد ، فهو يتعدى إلى مفعولين ، والتقدير وكفلها ربها زكريا ، أي ألزمه كفالته وقدر ذلك عليه ويسره له. وفي مصحف أبي وأكفلها والهمزة كالتشديد في التعدي ، وأيضا فإن قبله فتقبلها ، وأنبتها فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها ، فجاء كفلها بالتشديد على ذلك وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا . فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها ، بدلالة قوله : " أيهم يكفل مريم " . قال مكي : وهو الاختيار ، لأن التشديد يرجع إلى التخفيف ، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله ، ولأن زكريا إذا كفلها فعل مشيئة الله وقدرته ، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان . وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني وكفلها بكسر الفاء . قال الأخفش : يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل ، وقد ذكرت . وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام على المسألة والطلب . ربها بالنصب نداء مضاف . وأنبتها بإسكان التاء وكفلها بإسكان اللام زكريا بالمد والنصب . وقرأ حفص وحمزة والكسائي زكريا بغير مد ولا همز ، ومده الباقون وهمزوا . وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون زكريا ويقصرونه ، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكري . قال الأخفش : فيه أربع لغات : المد والقصر ، وزكري بتشديد الياء والصرف ، وزكر ورأيت زكريا . قال أبو حاتم : زكرى بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط ، لأن ما كان فيه يا مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى ، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف .
قوله تعالى : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " إلى قوله : " إنك سميع الدعاء " .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " كلما دخل عليها زكريا المحراب " المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس . وسيأتي له مزيد بيان في سورة مريم وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم . قال وضاح اليمن :
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها حتى ارتقي سلما
أي ربة غرفة . روى أبو صالح عن ابن عباس قال : حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران : ويحك ما صنعت أرأيت إن كانت أنثى فاغتما لذلك جميعا . فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن ، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي ، على ما يأتي . فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم ، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها باب ، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت ، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي . قال مقاتل : كانت أختها امرأة زكريا ، وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب . وقال بعضهم : كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض . وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال : يا مريم أنى لك هذا فقالت : هو من عند الله . فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال : إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا . ومعنى أنى من أين ، قال أبو عبيدة . قال النحاس : وهذا فيه تساهل ، لأن أين سؤال عن المواضع وأنى سؤال عن المذهب والجهات . والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا . وقد فرق الكميت بينهما فقال :
أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
وكلما منصوب ب وجد ، أي كل دخلة . " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا ، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد .
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام, وهي حنة بنت فاقوذ قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل, فرأت يوماً طائراً يزق فرخه, فاشتهت الولد, فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً, فاستجاب الله دعاءها, فواقعها زوجها, فحملت منه, فلما تحققت الحمل, نذرت أن يكون محرراً أي خالصاً مفرغاً للعبادة ولخدمة بيت المقدس, فقالت: " رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " أي السميع لدعائي العليم بنيتي, ولم تكن تعلم ما في بطنها: أذكراً أم أنثى ؟ "فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت" قرىء برفع التاء, على أنها تاء المتكلم, وأن ذلك من تمام قولها, وقريء بتسكين التاء, على أنه من قول الله عز وجل, "وليس الذكر كالأنثى" أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى "وإني سميتها مريم" فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا, وقد حكي مقرراً, وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال "ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم" أخرجاه, وكذلك ثبت فيهما: " أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله " , وفي صحيح البخاري : " أن رجلاً قال: يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه ؟ قال :أسم ولدك عبد الرحمن", وثبت في الصحيح أيضاً: " أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه, فذهل عنه, فأمر به أبوه, فرده إلى منزلهم, فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر " , فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "كل غلام رهين بعقيقته, يذبح عنه يوم سابعه, ويسمى ويحلق رأسه" فقد رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي بهذا اللفظ, وروي: ويدمى, وهو أثبت وأحفظ, والله أعلم.
وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, عق عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم " , فإسناده لا يثبت, وهو مخالف لما في الصحيح, ولو صح لحمل على أنه أشهر اسمه بذلك يومئذ, والله أعلم, وقوله إخباراً عن أم مريم أنها قالت "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" أي عوذتها بالله عز وجل من شر الشيطان, وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام, فاستجاب الله لها ذلك, كما قال عبد الرزاق :" أنبأنا معمر عن الزهري , عن ابن المسيب , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد, فيستهل صارخاً من مسه إياه, إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم", أخرجاه من حديث عبد الرزاق , ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج , عن بقية , عن الزهري عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وروى من حديث قيس , عن الأعمش عن أبي صالح , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرةً أو عصرتين, إلا عيسى ابن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة , ورواه مسلم عن أبي الطاهر , عن ابن وهب , عن عمرو بن الحارث , عن أبي يونس , عن أبي هريرة . ورواه ابن وهب أيضاً, عن ابن أبي ذئب , عن عجلان مولى المشمعل, عن أبي هريرة . ورواه محمد بن إسحاق , عن يزيد بن عبد الله بن قسيط , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. وهكذا رواه الليث بن سعد , عن جعفر بن ربيعة , عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج , قال: قال أبوهريرة : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم, ذهب يطعن, فطعن في الحجاب " .
قوله " فتقبلها ربها بقبول حسن " أي رضي بها في النذر، وسلك بها مسلك السعداء. وقال قوم: معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق والباء زائدة، والأصل تقبلاً، وكذلك قوله "وأنبتها نباتاً حسناً" وأصله إنباتاً فحذف الحرف الزائد، وقيل هو مصدر لفعل محذوف: أي فنبتت نباتاً حسناً. والمعنى أنه سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، قيل إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها. قوله "وكفلها زكريا" أي: ضمها إليه. وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون "وكفلها" بالتشديد: أي جعله الله كافلاً لها وملتزماً بمصالحها، وفي معناه ما في مصحف أبي وأكفلها. وقرأ الباقون بالتخفيف على إسناد الفعل إلى زكريا، ومعناه ما تقدم من كونه ضمها إليه وضمن القيام بها. وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني وكفلها بكسر الفاء. قال الأخفش: لم أسمع كفل. وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان التاء وكفلها بتشديد الفاء المكسورة وإسكان اللام ونصب زكريا مع المد. وقرأ حفص وحمزة والكسائي زكريا بغير مد، ومده الباقون. وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون زكريا ويقتصرونه. قال الأخفش: فيه لغات المد والقصر، وزكري بتشديد الياء وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة والتعريف مع ألف التأنيث. قوله "كلما دخل عليها زكريا المحراب" قدم الظرف للإهتمام به، وكلمة كل ظرف، والزمان محذوف، وما مصدرية أو نكرة موصوفة والعامل في ذلك قوله "وجد" أي: كل زمان دخوله عليها وجد عندها زرقاً: أي نوعاً من أنواع الرزق. والمحراب في اللغة: أكرم موضع في المجلس قاله القرطبي، وهو منصوب على التوسع، قيل: إن زكريا جعل لها محراباً لا يرتقى إليه إلا بسلم، وكان يطلق عليها حتى كبرت، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال "يا مريم أنى لك هذا" أي: من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا "قالت هو من عند الله" فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر، وجملة قوله "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" تعليلية لما قبلها، وهو من تمام كلامها، ومن قال إنه من كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إني نذرت لك ما في بطني محرراً" قال: كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد بها، وكانت ترجو أن يكون ذكراً. وأخرج ابن المنذر عنه قال: نذرت أن تجعله محرراً للعبادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "محرراً" قال: خادماً للبيعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: محرراً خالصاً لا يخالطه شيء من أمر الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"" وللحديث ألفاظ عن أبي هريرة هذا أحدها، وروي من حديث غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كفلها زكريا فدخل عليها المحراب فوجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه، فقال: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، قال: إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولداً "هنالك دعا زكريا ربه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم، فتشاح عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها فكفلها، وكانت عنده وحضنها. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس. "وكفلها زكريا" قال: جعلها معه في محرابه.
37-قوله " فتقبلها ربها بقبول حسن " أي تقبل الله مريم من حنة مكان المحرر، وتقبل بمعنى قبل ورضي ، والقبول مصدر قبل يقبل قبولاً مثل الولوع والوزوع ، ولم يأت غير هذه الثلاثة . وقيل: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها " وأنبتها نباتاً حسناً " معناه: وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً، وقيل هذا مصدر على غير (اللفظ) وكذلك قوله " فتقبلها ربها بقبول حسن " (ومثله شائع كقولك تكلمت كلاماً، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما "فتقبلها ربها بقبول حسن" )أي سلك بها طريق السعداء "وأنبتها نباتاً حسناً" يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام "وكفلها زكريا" قال أهل الأخبار :أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار ، بناء هارون ، وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت غمامهم وصاحب قرربانهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، عندي خالتها ، فقالت له الأحبار: لانفعل ذلك ، فإنها لو تركت لأحق الناس لتركت لأمها التي ولدتها ، لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا (تسعة وعشرين) رجلاً إلى نهر جار، قال السدي : هو نهر الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على ان من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو إولى بها.
وقيل: كان على كل قلم اسم واحد منهم.
وقيل: كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء (فارتز) قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر ، قاله محمد بن إسحاق وجماعة.
وقيل: جرى قلم زكريا مصعداً إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء.
وقال السدى وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء ، فسهمهم وقرعهم زكريا ، و كان زكريا راس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى " وكفلها زكريا" قرأ حمزة و الكسائي وعاصم بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله زكريا وضمها اليه بالقرعة ، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا الى نفسه وقام بأمرها ، وهو زكريا بن آذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام.
وقرأحمزة و الكسائي و حفص عن عاصم : زكريا مقصوراً ، والآخرون يمدونه.
فما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها ، وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى ، إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل ابه في وسطها لا يرقى أإليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم " كلما دخل عليها زكريا المحراب" وأراد بالمحراب الغرفة ، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، ويقال للمسجد أيضاً محراب ، قال المبرد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة ، وقال الربيع ابن انس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة إبواب فإذا دخل عليها غرفتها "وجد عندها رزقاً"أي فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف"قال يا مريم أنى لك هذا " قال أبو عبيدة : معناه من اين لك هذا ؟وأنكر بعضهم عليه ، وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؟لأن أنى للسؤال عن الجهة وأين لسؤوال عن المكان" قالت هو من عند الله " أي من قطف الجنة ، قال الحسن : حين ولدت مريم لم تلقم ثداً قط، كان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول لها زكريا :أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة " والله يرزق من يشاء بغير حساب ".
وقال محمد بن اسحاق: ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل : تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي؟ قالوا: والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى ، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بداً ، فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بنى إسرائيل يقال له : يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم فحملها ، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فقالت له : يايوسف احسن بالله الظن فغن الله سيرزقنا ، فجعل يوسف يزرق بمكانها منه ، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق ، ليس بقدر ما يأتيها به يوسف ، فيقول : يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال:إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر فطمع في الولد ، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وآيس من الولد.
37 "فتقبلها ربها" فرضي بها في النذر مكان الذكر. "بقبول حسن" أي بوجه حسن يقبل به النذائر، وهو إقامتها مقام الذكر، أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة. روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا. ويجوز أن يكون مصدراً على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن، وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. "وأنبتها نباتاً حسناً" مجاز من تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها "وكفلها زكريا" شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم، وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عايش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها، وخفف الباقون. ومدوا "زكريا" مرفوعاً. "كلما دخل عليها زكريا المحراب" أي الغرفة التي بنيت لها، أو المسجد، أو أشرف مواضعه ومقدمها، سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. "وجد عندها رزقاً" جواب "كلما" وناصبه. روي: أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس. " قال يا مريم أنى لك هذا " من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك، وهو دليل جواز الكرامة لأولياؤه. جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه. "قالت هو من عند الله" فلا تستبعده. قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثديا قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة. "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً به. وهو يحتمل أن يكون من كلامها وأن يكون من كلام الله تعالى. روي: "أن فاطمة رضي الله عنها أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال: هلمي يا بنية، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فقال لها: أنى لك هذا! فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، ثم جمع علياً والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها".
37. And her Lord accepted her with full acceptance and vouchsafed to her a goodly growth; and made Zachariah her guardian. Whenever Zachariah went into the sanctuary where she was, he found that she had food. He said: O Mary! Whence cometh unto thee this (food)? She answered: It is from Allah. Allah giveth without stint to whom He will.
37 - Right graciously did her lord accept her: he made her grow in purity and beauty: to the care of Zakariya was she assigned. every time that he entered (her) chamber to see her, he found her supplied with sustenance. he said: O Mary whence (comes) this to you? she said: from God: for God provides sustenance to whom he pleases, without measure.