41 - (ولمن انتصر بعد ظلمه) ظلم الظالم إياه (فأولئك ما عليهم من سبيل) مؤاخذة
يقول تعالى ذكره : ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه "فأولئك ما عليهم من سبيل " يقول : فإولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليه بعقوبة ولا أذى ، لأنهم انتصروا منهم بحق ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه ، ولم يتعد ، لم يظلم فيكون عليه سبيل . وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بذلك ، فقال بعضهم : عني به كل منتصر ممن أساء إليه مسلماً كان المسيء أو كافراً .
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا معاذ ، قال : ثنا ابن عون ، قال : كنت أسأل عن الانتصار " ولمن انتصر بعد ظلمه " ... الآية ، فحدثني علي بن زيد بن جدعان ، عن أم محمد امرأة أبيه ، قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين قالت : قالت أم المؤمنين : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندنا زينب بنت جحش ، فجعل يصنع بيديه شيئاً ، ولم يفطن لها ، فقلت بيده حتى فطنته لها ، فأمسك ، وأقبلت زينب تقحم لعائشة ، فنهاها ، بأبتي أن تنتهي ، فقال لعائشة : سبيها فسبتها وغلبتها ، وانطلقت زينت فأتت علياً ، فقالت : إن عائشه تقع بكم وتفعل بكم ، فجاءت فاطمة ، فقال لها إنها حبة أبيك ورب الكعبة ، فانصرفت وقالت لعلي : إني قلت له كذا وكذا ، قال : وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولمن انتصر بعد ظلمه " ... الآية ، قال : هذا في الخمش يكون بين الناس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " قال : هذا فيما يكون بين الناس من القصاص فإما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه . وقال آخرون : بل عني به الإنتصار من أهل الشرك ، وقال : هذا منسوخ .
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " ، قال : لمن انتصر بعده ظلمه من المؤمنين انتصر من المشركين وهذا قد نسخ ، وليس هذا في أهل الإسلام ولكن في أهل الإسلام الذي قال الله تبارك وتعالى : " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " [ فصلت : 34 ] والصواب من القول أن يقال : إنه معني به كل منتصر من ظالمه وإن الآية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الآية قبلها .
الرابعة : قوله تعالى : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه ، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي ، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام ، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم ، وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج ، وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب ، القسم الثاني ، أن يكون حد الله تعالى لا حق لآدمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة ، فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه ، وإن ثبت عند حاكم نظر ، فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه ، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب ، وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذاً بحكمه ، القسم الثالث ، أن يكون حقاً في مال ، فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به ، وإن كان غير عالم نظر ، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه ، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان أحدهما جوازه ، وهو قول مالك و الشافعي الثاني المنع ، وهو قول أبي حنيفة .
قوله تبارك وتعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" كقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وكقوله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الاية, فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا: "والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له" ولهذا قال ههنا: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث "وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً" وقوله تعالى: "إنه لا يحب الظالمين" أي المعتدين وهو المبتدىء بالسيئة.
ثم قال جل وعلا: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا معاذ بن معاذ, حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصنع بيده شيئاً فلم يفطن لها, فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك, وأقبلت زينب رضي الله عنها تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها, فأبت أن تنتهي, فقال لعائشة رضي الله عنها "سبيها" فسبتها فغلبتها, وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت علياً رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم لها "إنها حبة أبيك ورب الكعبة" فانصرفت, وقالت لعلي رضي الله عنه: إني قلت له صلى الله عليه وسلم كذا وكذا, فقال لي كذا وكذا, قال: وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في ذلك, هكذا أورد هذا السياق, وعلي بن زيد بن جدعان, يأتي في رواياته بالمنكرات غالباً, وهذا فيه نكارة, والصحيح خلاف هذا السياق, كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء, عن عبد الله البهي عن عروة, قال: قالت عائشة رضي الله عنها, ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى, ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها, ثم أقبلت علي فأعرضت عنها, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئاً, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه, وهذا لفظ النسائي.
وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أبو غسان, حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديثه, وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وقوله عز وجل: "إنما السبيل" أي إنما الحرج والعنت "على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" أي يبدءون الناس بالظلم, كما جاء في الحديث الصحيح "المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم" "أولئك لهم عذاب أليم" أي شديد موجع.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا عثمان الشحام, حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق منظرة, فأخذت حاجتي فانطلق بي إلى مروان بن المهلب, وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي, قال: ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد: استعمل صديقاً له مرة على عمل, فكتب إليه: أما بعد, فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف, وبطنك خميص, وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم, فإنك إذا فعلت ذلك, لم يكن عليك سبيل " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم " فقال مروان: صدق والله ونصح, ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله, قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي, قال: نعم, رواه ابن أبي حاتم, ثم إن الله تعالى, لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص, قال نادباً إلى العفو والصفح: "ولمن صبر وغفر", أي صبر على الأذى, وستر السيئة "إن ذلك لمن عزم الأمور" قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها, أي لمن الأمور المشكورة, والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل, وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي, حدثنا مصمد بن يزيد خادم الفضيل بن عياض قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً, فقل: ياأخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى, فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو, ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل, فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو, فإنه باب واسع, فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله, وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل, وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان, عن ابن عجلان, حدثنا سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم, فلما أكثر رد عليه بعض قوله, فغضب النبي وقام, فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس, فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت, قال: إنه كان معك ملك يرد عنك, فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ـ ثم قال ـ يا أبا بكر: ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها الله, إلا أعزه الله تعالى بها ونصره, وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة, وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة, إلا زاده الله عز وجل بها قلة " وكذا رواه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد عن سفيان بن عيينة قال: ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان, ورواه من طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلاً, وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى, وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.
41- "ولمن انتصر بعد ظلمه" مصدر مضاف إلى المفعول: أي بعد أن ظلمه الظالم له، واللام هي لام الابتداء. وقال ابن عطية: هي لام القسم، والأول أولى. ومن هي الشرطية وجوابه "فأولئك ما عليهم من سبيل" بمؤاخذة وعقوبة، ويجوز أن تكون من هي الموصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيهاً للموصولة بالشرطية، والأول أولى.
41. " ولمن انتصر بعد ظلمه "، أي: بعد ظلم الظالم إياه، " فأولئك "، يعني المنصرين، " ما عليهم من سبيل "، بعقوبة ومؤاخذة.
41-" ولمن انتصر بعد ظلمه " بعد ما ظلم ، وقد قرئ به . " فأولئك ما عليهم من سبيل " بالمعاتبة والمعاقبة .
41. And whoso defendeth himself after he hath suffered wrong for such, there is no way (of blame) against them.
41 - But indeed if any do help and defend themselves after a wrong (done) to them, against such there is no cause of blame.