(يومئذ) يوم المجيء (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو) أي أن (تُسَوَّى) بالبناء للمفعول والفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل ، ومع إدغامها في السين {تَسَّوَّى}أي تتسوى (بهم الأرض) بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم هوله كما في آية أخرى: {ويقول الكافرين يا ليتني كنت ترابا} (ولا يكتمون الله حديثا) عما عملوه وفي وقت آخر يكتمونه ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يوم نجيء من كل أمة بشهيد، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيداً، "يود الذين كفروا"، يقول: يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله، "لو تسوى بهم الأرض".
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز ومكة والمدينة: لو تسوى بهم الأرض، بتشديد السين والواو وفتح التاء، بمعنى: لو تتسوى بهم الأرض، ثم أدغمت التاء الثانية في السين، يراد به: أنهم يودون لو صاروا تراباً فكانوا سواءً هم والأرض.
وقرأ آخرون ذلك: لو تسوى بهم الأرض، بفتح التاء وتخفيف السين. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة بالمعنى الأول، غير أنهم تركوا تشديد السين، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد.
وقرأ ذلك آخرون: "لو تسوى بهم الأرض"، بمعنى: لو سواهم الله والأرض فصاروا تراباً مثلها بتصييره إياهم، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم.
قال أبو جعفر: وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب. لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ تراباً، إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك. وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك، فقد تمنى أن يكون تراباً. على أن الأمر وإن كان كذلك، فأعجب القراءة إلي في ذلك: لو تسوى بهم الأرض، بفتح التاء وتخفيف السين كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40]. فأخبر الله عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا تراباً، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا: "يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40]. فكذلك قوله: لو تسوى بهم الأرض فيسووا هم. وهي أعجب إلي، ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله: "يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40].
وأما قوله: "ولا يكتمون الله حديثا"، فإن أهل التأويل تأولوه بمعنى: ولا تكتم الله جوارحهم حديثاً، وإن جحدت ذلك أفواههم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو، عن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: أتى رجل ابن عباس فقال: سمعت الله يقول: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، وقال في آية أخرى: "ولا يكتمون الله حديثا". فقال ابن عباس: أما قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنجحد! فقالوا: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]! فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثاً.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن؟ فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس بالشك، ولكنه اختلاف! قال: فهات ما اختلف عليك. قال: أسمع الله يقول: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، وقال: "ولا يكتمون الله حديثا"، وقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب، ولا يغفر شركاً، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون فقالوا: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، رجاء أن يغفر لهم، فختم على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك: "يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا".
حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الزبير، عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله تبارك وتعالى: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا"، وقوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقى علي ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده! فيقولون: تعالوا نقل! فيسألهم فيقولون: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا"، يعني: أن تسوى الأرض بالجبال والأرض، عليهم.
فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول، لو تسوى بهم الأرض ولم يكتموا الله حديثاً، كأنهم تمنوا أنهم سووا مع الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثاً.
وقال آخرون: معنى ذلك: يومئذ لا يكتمون الله حديثاً، ويودون لو تسوى بهم الأرض. وليس بمنكتم عن الله شيء من حديثهم، لعلمه جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإن هم كتموه بألسنتهم فجحدوه، لايخفى عليه شيء منه.
ضمت الواو في عصوا لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها ، وقرأ نافع وابن عامر تسوى بفتح التاء والتشديد في السين، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين .والباقون ضموا تاء وخففوا السين، مبنياً للمفعول والفاعل غير مسمى والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض أي يجعلهم والأرض سواء ومعنى آخر: تمنوا لو يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم لأنهما من التراب نقلوا، على القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعله والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها. قاله قتادة وقيل: الباء بمعنى على أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم، عن الحسن فقراء التشديد على الإدغام والتخفيف على حذف التاء وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير تراباً وعلموا أنهم مخلدون في النار وهذا معنى قوله تعالى :" ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " [ النبأ: 40] وقيل: إنما تمنوا هذا حديث شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في البقرة عند قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [ البقرة : 143] الآية. فتقول الأمم الخالية : إن فيهم الزناة والسراق فلا يقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول المشركون " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام :23] فيختم على أفواههم تشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون فذلك قوله تعالى :" يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " يعني تخسف بهم والله أعلم .
قوله تعالى :" ولا يكتمون الله حديثا" قال الزجاج قال بعضهم :" ولا يكتمون الله حديثا" مستأنف لأن ما علموه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه وقال بعضهم: هو معطوف والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه ظهر كذبهم وسئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله تعالى :" والله ربنا ما كنا مشركين " فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: "والله ربنا ما كنا مشركين " فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا وقال الحسن وقتادة: الآخر مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا وسيأتي لهذا مزيد بيان في الأنعام إن شاء الله تعالى .
يقول تعالى مخبراً: إنه لا يظلم أحداً من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة, بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة, كما قال تعالى: "ونضع الموازين القسط" الاية, وقال تعالى مخبراً عن لقمان أنه قال: " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " الاية, وقال تعالى: " يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل, وفيه "فيقول الله عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان, فأخرجوه من النار" وفي لفظ: "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان, فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً" ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا إن شئتم "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة, عن عبد الله بن السائب, عن زاذان, قال: قال عبد الله بن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والاخرين: هذا فلان بن فلان, من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها, ثم قرأ "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً, فينصب للناس فينادى: هذا فلان بن فلان, من كان له حق فليأت إلى حقه. فيقول: رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته, فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ علينا "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها" قال: ادخل الجنة وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير, فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضعفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار, ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر, قال: نزلت هذه الاية في الأعراب "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: ما هو أفضل من ذلك "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما", وحدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله: "وإن تك حسنة يضاعفها" فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً, وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله, إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك, فهل نفعته بشيء ؟ قال "نعم هو في ضحضاح من نار, ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عمران, حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الاخرة, وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة" وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله: "ويؤت من لدنه أجراً عظيماً": يعني الجنة, نسأل الله رضاه والجنة, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان, قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة, قال: فقضي أني انطلقت حاجاً أو معتمراً, فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة, وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن الحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت: يا أبا هريرة: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال: يا أبا عثمان, وما تعجب من ذا والله يقول "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" ويقول " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" قال: وهذا حديث غريب, وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير, ورواه أحمد أيضاً فقال: حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, قال أتيت أبا هريرة, فقلت له: بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ! قال: وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة", ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب, حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص, عن أبي عثمان النهدي, قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة, فقدم قبلي حاجاً وقدمت بعده, فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة, وما سمعت منه هذا الحديث, فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث, ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال: حدثنا بشر بن مسلم, حدثنا الربيع بن روح, حدثنا محمد بن خالد الذهبي, عن زياد الجصاص, عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة" فقال أبو هريرة: والله بل سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا هذه الاية " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " وقوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه, فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد, يعني الأنبياء عليهم السلام, كما قال تعالى: "وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء" الاية، وقال تعالى: "ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم" الاية, وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إبراهيم عن عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي" فقلت: يا رسول الله آقرأ عليك, وعليك أنزل ؟ "قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" فقال "حسبك الان" فإذا عيناه تذرفان, ورواه هو ومسلم أيضاً من حديث الأعمش به, وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا, حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري, حدثنا فضيل بن سليمان, حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه, قال: وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر, فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم, ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الاية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه, فقال: "يا رب, هذا شهدت على من أنا بين ظهريه, فكيف بمن لم أره", وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان, عن المسعودي, عن جعفر بن عمرو بن حريث, عن أبيه, عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الاية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شهيد عليهم ما دمت فيهم, فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم". وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته, قال: أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية, فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم, فلذلك يشهد عليهم, يقول الله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" فإنه أثر وفيه انقطاع, فإن فيه رجلاً مبهماً لم يسم, وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه, وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس, وعلى الأنبياء والاباء والأمهات يوم الجمعة, قال: ولا تعارض, فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم, ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. وقوله تعالى: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً" أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ, كقوله: "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه" الاية, وقوله: "ولا يكتمون الله حديثاً" إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام, حدثنا عمرو عن مطرف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: سمعت الله عز وجل يقول ـ يعني إخباراً عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا ـ "والله ربنا ما كنا مشركين" وقال في الاية الأخرى: "ولا يكتمون الله حديثاً" فقال ابن عباس: أما قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام, قالوا: تعالوا فلنجحد, فقالوا "والله ربنا ما كنا مشركين" فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم "ولا يكتمون الله حديثاً"، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن, قال: ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال: ليس هو بالشك, ولكن اختلاف قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك, قال أسمع الله يقول "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" وقال "ولا يكتمون الله حديثاً" فقد كتموا. فقال ابن عباس: أما قوله: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركاً جحد المشركون, فقالوا "والله ربنا ما كنا مشركين" رجاء أن يغفر لهم, فختم الله على أفواههم, وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, فعند ذلك "يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً" وقال جويبر عن الضحاك: إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس, قول الله تعالى: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً" وقوله: "والله ربنا ما كنا مشركين", فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك, فقلت: ألقى على ابن عباس متشابه القرآن, فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد, فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده, فيقولون: تعالوا نجحد: فيسألهم فيقولون "والله ربنا ما كنا مشركين" قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم "ولا يكتمون الله حديثاً" رواه ابن جرير.
42- "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض" قرأ نافع وابن عامر "تسوى" بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين، والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوى بهم: أي أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها، وقيل الباء في قوله "بهم" بمعنى على: أي تسوى عليهم الأرض. وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول: أي لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا. قوله "ولا يكتمون الله حديثاً" عطف على " يود " أي : يومئذ يود الذين كفروا ويومئذ لا يكتمون الله حديثا ولا يقدرون على ذلك. قال الزجاج: قال بعضهم "ولا يكتمون الله حديثاً" مستانف لأن ما علمون ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف. والمعنى: يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه ظهر كذبهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالاً من الأنصار ينتصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون؟ فأنزل الله فيهم "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" إلى قوله "وكان الله بهم عليماً". وقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنها نزلت في اليهود. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" قال: رأس نملة حمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "وإن تك حسنة" وزن ذرة زادت على سيئاته "يضاعفها" فأما المشرك فيخفف به عنه العذاب ولا يخرج من النار أبداً. وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي قلت يا رسول الله: اقرا عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" قال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان". وأخرجه الحاكم وصححه من حديث عمرو بن حريث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي من ابن عباس في قوله "لو تسوى بهم الأرض" يعني: أن تسوى الأرض بالجبال والأرض عليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول: ودوا لو انخرقت بهم الأرض فساخوا فيها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا يكتمون الله حديثاً" قال: بجوارحهم.
42-قوله عز وجل:"يومئذ"، أي يوم القيامة،"يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض"، قرأ أهل المدينة وابن عامر"تسوى" بفتح التاء وتشديد السين على معنى تتسوى ، فأدغمت التاء الثانية في السين ، وقرا حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء الفعل كقوله تعالى "لا تكلم نفس إلا بإذنه" (هود-11) وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول،أي: لو سويت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً.
وقال قتادة وأبو عبيدة: يعني لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها ثم تسوى بهم ، أي: عليهم الأرض .
وقيل: ودوا لو أنهم لم يبعثوا لأنهم إنما نقلوا من التراب، وكانت الأرض مستويةً عليهم.
وقال الكلبي: يقول الله عز وجل للبهائم والوحوش والطير والسباع: كونوا تراباً فتسوى بهن الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان تراباً كما قال الله تعالى:" ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا "(النبأ-40).
"ولا يكتمون الله حديثاً" قال عطاء: ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته قال الآخرون : بل هو كلام مستأنف، يعني : ولا يكتمون الله حديثاً لأن ما عملوا لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه . وقال الكلبي وجماعة: "ولا يكتمون الله حديثاً" لأن جوارحهم تشهد عليهم.
قال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما :إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: هات ما اختلف عليك ، قال: " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" (المؤمنون-101)
" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون"(الطور-25) وقال:"ولا يكتمون الله حديثاً"،"والله ربنا ما كنا مشركين"(الأنعام -23)
كتموا وقال:"أم السماء بناها"، قوله تعالى:"والأرض بعد ذلك دحاها"فذكر خلق السماء قبل الأرض ، قم قال:" أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين "، إلى قوله :"طائعين"(فصلت 9-11) .
في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال: "وكان الله غفوراً رحيماً" "وكان الله عزيزاً حكيماً" فكأنه كان ثم مضى؟.
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلا انساب بينهم في النفخة الأولى قال الله تعالى:"ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله"(الزمر(68) فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم النفخة الآخرة "أقبل بعضهم على بعض يتساءلون "،وأما قوله:"ما كنا مشركين""ولا يكتمون الله حديثاً" فإن الله بغفر لأهل الأخص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقل لم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لايكتم حديثاً ، وعنده "يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض"، "خلق الأرض في يومين" ، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحيها : أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فقال: خلق الأرض في يومين فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين ،"وكان الله غفوراً رحيماً" أي: لم يزل كذلك، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاً من عند الله.
وقال الحسن: إنها مواطن ، ففي موطن لايتكلمون ولا تسمع إلا همساً، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون: ما كنا مشركين، وما كنا نعمل من سوء وفي موضع يعترفون على أنفسهم وهو قوله "فاعترفوا بذنبهم" وفي موضع لا يتساءلون ، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم ، وهو قوله تعالى:"ولا يكتمون الله حديثاً".
42- "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض" بيان لحالهم حينئذ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء. "ولا يكتمون الله حديثاً" ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثاً ولا يكذبونه بقولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " إذ روي: أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض. وقرأ نافع و ابن عامر "تسوى بهم" على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين. وقرأ حمزة و الكسائي "تسوى" على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى.
42. On that day those who disbelieved and disobeyed the messenger will wish that they were level with the ground, and they can hide no fact from Allah.
42 - On that day those who reject faith and disobey the apostle will wish that the earth were made one with them: but never will they hide a single fact from God