(الذين يظنون) يوقنون (أنهم ملاقوا ربهم) بالبعث (وأنهم إليه راجعون) في الآخرة فيجازيهم
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه يظن أنه ملاقيه، والظن شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟.
قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين ظنا، نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة والمغيث صارخًا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبًا مرجما
يعني: وأجعل مني اليقين غيبًا مرجمًا. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين، أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية. ومنه قول الله جل ثناؤه: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" (الكهف: 53). وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"يظنون أنهم ملاقوا ربهم" قال: إن الظن ههنا يقين.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن يقين، إني ظننت، وظنوا.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم"، أما (يظنون) فيستيقنون.
حدثني القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم"، علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقوله: "إني ظننت أني ملاق حسابيه" (الحاقة:20). يقول: علمت.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم"، قال: لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينًا، وليس ظنًا في شك، وقرأ: " إني ظننت أني ملاق حسابيه".
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "أنهم ملاقوا ربهم".
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف الملاقون إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون، وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى فعل ، فأما إذا كانت بمعنى يفعل وفاعل، فشأنها إثبات النون وترك الإضافة.
قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها، في إجازة إضافة الاسم المبني من فعل ويفعل وإسقاط النون، وهو بمعنى يفعل وفاعل، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض. فلا وجه لمسئلة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذى من أجله أضيف وأسقطت النون.
فقال نحويو البصرة، أسقطت النون من "ملاقوا ربهم"، وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء، وهي في معنى يفعل، وفي معنى ما لم ينقض، استثقالاً لها وهي مرادة، كما قال جل ثناؤه:"كل نفس ذائقة الموت" (آل عمران: 185/ الأنبياء: 35/ العنكبوت: 57)، وكما قال: "إنا مرسلو الناقة فتنة لهم" (القمر: 27)، ولما يرسلها، وكما قال الشاعر:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد رب أخا عون بن مخراق؟
فأضاف باعثاً إلى الدينار، ولما يبعث، ونصب عبد رب. عطفًا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر:
الحافظو عورة العشير،لا يأتيهم من ورائهم نطف
بنصب العورة وخفضها، فالخفض على الإضافة، والنصب على حذف النون استثقالاً وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة.
وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ملاقو الإضافة، وهو في معنى يلقون، وإسقاط النون منه، لأنه في لفظ الأسماء، فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرًا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة، فإنما تفعل ذلك به، لأن له معنى يفعل، الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ، وترك الإضافة للمعنى. فتأويل الآية إذًا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي، المتواضعين لأمري، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم.
وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته، لأن من كان غير موقن بمعاد، ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فالصلاة عنده عناء وضلال، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة، وإقامتها عليه ثقيلة وله فادحة. وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله، الراجين عليها جزيل ثوابه، الخائفين بتضييعها أليم عقابه، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها، إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون.
القول في تأويل قوله تعالى:"وأنهم إليه راجعون".
قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في قوله: "وأنهم"، من ذكر الخاشعين، والهاء في "إليه" من ذكر الرب تعالى في قوله:"ملاقوا ربهم".
فتأويل الكلمة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم الى ربهم راجعون.
ثم اختلف في تأويل الرجوع الذي في قوله:"وأنهم إليه راجعون". فقال بعضهم، بما:
حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "وأنهم إليه راجعون"، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة. وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم إليه يرجعون بموتهم.
وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره قال في الآية التي قبلها: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون". فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم، وذلك لا شك يوم القيامة. فكذلك تأويل قوله: "وأنهم إليه راجعون".
قوله تعالى : "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون" .
قوله تعالى : "الذين يظنون" الذين في موضع خفض على النعت للخاشعين ، ويجوز الرفع على القطع . والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ، ومنه قوله تعالى : "إني ظننت أني ملاق حسابيه" وقوله : "فظنوا أنهم مواقعوها" قال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
وقال أبو دؤاد
رب هم فرجته بغريم وغيوب كشفتها بظنون
وقد قيل : إن الظن في الآية يصح أن تكون على بابه ، ويضمر في الكلام بذنوبهم ، فأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ، ذكر المهدوي و الماوردي . قال ابن عطية : وهذا تعسف . وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ، ولا يعرف ذلك البصريون . وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه ، وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس ، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر : أظن هذا إنساناً . وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بعد ، كهذه الآية والشعر ، وكقوله تعالى : "فظنوا أنهم مواقعوها" . وقد يجيء اليقين بمعنى الظن ، وقد تقدم بيانه أول السورة . وتقول : سؤت به ظنا ، وأسأت به الظن . يدخلون الألف إذ جاءوا بالألف واللام . ومعنى : "ملاقوا ربهم" جزاء ربهم . وقيل : جاء على المفاعلة وهو من واحد ، مثل عافاه اله : "وأنهم" بفتح الهمزة عكف على الأول ، ويجوز وإنهم بكسرها على القطع . "إليه" أي إلى ربهم ، وقيل : إلى جزائه . "راجعون" إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى .
يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والاخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الاية: استعينوا على طلب الاخرة بالصبر على الفرائض والصلاة، فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد، قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "الصوم نصف الصبر" وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي، ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر ، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير ، قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: والصلاة، فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: "اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" الاية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة: قال حذيفة، يعني ابن اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد ومعناه أيوجعك بطنك ؟ قال: نعم، قال: "قم فصل، فإن الصلاة شفاء" قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر ، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: إنها لكبيرة عائد إلى الصلاة، نص عليه المجاهد، واختاره ابن جرير ، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون" وقال تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: "وإنها لكبيرة". أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين وقال الضحاك: وإنها لكبيرة، قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه" وقال ابن جرير: معنى الاية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الاية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون" هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات، فأما قوله "يظنون أنهم ملاقوا ربهم" قال ابن جرير ، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً، والشك ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيباً مرجماً
يعني ويجعل اليقين غيباً مرجماً، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا، وحدثني المثنى: حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم، وهذا سند صحيح، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم" قال: الظن ههنا يقين، قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم" علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله " إني ظننت أني ملاق حسابيه " يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (قلت) وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة "ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله اليوم أنساك كما نسيتني" وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى "نسوا الله فنسيهم" إن شاء الله تعالى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كل الظن في القرآن فهو يقين، ولا يتم هذا في مثل قوله: "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" وقوله: "إن بعض الظن إثم" ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة كما رواه ابن جرير عن قتادة قال: ما كان من ظن الآخرة فهو علم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: 46- "وأنهم إليه راجعون" قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.
46. " الذين يظنون " يستيقنون [أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى، أي: يصدقون بالبعث، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعاً إليه].
والظن من الأضداد يكون شكاً ويقيناً وأملاً، كالرجاء يكون خوفاً وأملاً وأمناً " أنهم ملاقوا " معاينو " ربهم " في الآخرة وهورؤية الله تعالى وقيل: المراد من اللقاء الصيرورة إليه " وأنهم إليه راجعون " فيجزيهم بأعمالهم.
46-" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون " أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده ، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود يعلمون وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع ، قال أوس بن حجر :
فأرسلته مستيقن الظل أنه مخالط ما بين الشراسف جائف
وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها ، متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها ، ومن ثمة قال عليه الصلاة والسلام " وجعلت قرة عيني في الصلاة " .
46. Who know that they will have to meet their Lord, and that unto Him they are returning.
46 - Who bear in mind the certainty that they are to meet their Lord, and that they are to return to him.