5 - (ولا أنتم عابدون) في الاستقبال (ما أعبد) علم الله منهم أنهم لا يؤمنون ، وإطلاق ما على الله على وجه المقابلة
وقوله : " ولا أنتم عابدون " فيما تستقبلون أبدا " ما أعبد " أنا الآن ، وفيما أستقبل .وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبداً ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه ، وحدثوا به أنفسهم ، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات ، وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبداً ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا ، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافراً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت به الآثار .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن موسى الحرشي ، قال :ثنا أبو خلف ، قال :ثنا داود ، عن عكرمة ،عن ابن عباس " إن قريشاً وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً ، فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ، ويطئوا عقبه ، فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد ، وكف عن شتم آلهتنا ، فلا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل ، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ، فهي لك ولنا فيها صلاح ، قال : ما هي ؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنة : اللات والعزى ، ونعبد إلهك سنة ، قال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربي ، فجار الوحي منة اللوح المحفوظ : " قل يا أيها الكافرون " السورة ، وأنزل الله " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " [ الزمر : 64] ...إلى قوله " فاعبد وكن من الشاكرين " [ الزمر : 66 ]" .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني سعيد بن مينا مولى البختري قال : " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية بن خلف ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشرك في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت منه بحظك ، فأنزل الله " قل يا أيها الكافرون " حتى انقضت السورة " .
قوله تعالى : " ولا أنتم عابدون ما أعبد " .
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون, وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله تعالى: "قل يا أيها الكافرون" يشمل كل كافر على وجه الأرض, ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش, وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة, ويعبدون معبوده سنة, فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: "لا أعبد ما تعبدون" يعني من الأصنام والأنداد "ولا أنتم عابدون ما أعبد" وهو الله وحده لا شريك له, فما ههنا بمعنى من, ثم قال: "ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه, ولهذا قال: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته, بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما قال: "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى".
فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه, فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه, فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه, ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله, ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لكم دينكم ولي دين" كما قال تعالى: "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون" وقال: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" . وقال البخاري يقال: "لكم دينكم" الكفر "ولي دين" الإسلام ولم يقل ديني لأن الايات بالنون فحذف الياء كما قال: "فهو يهدين" و "يشفين" وقال غيره: لا أعبد ما تعبدون الان ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ولا أنتم عابدون ما أعبد, وهم الذين قال: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" انتهى ما ذكره. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله: "فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً" وكقوله "لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين" وحكاه بعضهم كابن الجوزي وغيره عن ابن قتيبة , فالله أعلم. فهذه ثلاثة أقوال (أولها) ما ذكرناه أولاً (والثاني) ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد "لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد" في الماضي "ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد" في المستقبل (الثالث) إن ذلك تأكيد محض (وثم قول رابع) نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه, وهو أن المراد بقوله: "لا أعبد ما تعبدون" نفي الفعل لأنها جملة فعلية "ولا أنا عابد ما عبدتم" نفي قبوله لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد, فكأنه نفي الفعل وكونه قابلاً لذلك, ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً, وهو قول حسن أيضاً, والله أعلم. وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الاية الكريمة "لكم دينكم ولي دين" على أن الكفر ملة واحدة, فورث اليهود من النصارى وبالعكس إذ كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود, وبالعكس لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتوارث أهل ملتين شتى" آخر تفسير سورة قل يا أيها الكافرون.
5- "ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته، كذا قيل، وهذا على قول ما قال إنه لا تكرار في هذه الآيات لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدمنا من أن لا لا تدخل إلا على مضارع ف معنى الاستقبال، والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما تنفيه لا. قال الخليل في لن: إن أصله لا، فالمعنى: لا أعبد ما تعبدون في الستقبل، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي. ثم قال: "ولا أنا عابد ما عبدتم" أي ولست في الحال بعابد معبودكم، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي. وقيل بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله: "ولا أنا عابد ما عبدتم" كما لو قال القائل: أنا ضارب زيداً، وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال. قال الأخفش والفراء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد. قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل. وقيل إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثالني بالاستقبال رفعاً للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" وللاستقبال، لأن الجملة إسمية تفيد [الدوام] والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله: "ولا أنا عابد ما عبدتم" وفي قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل إسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة. وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار، لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه. وأما ما كان من الوضوح والظهور الجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل. وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر:
يا لبكر انشروا لي كليباً يا لبكر أين أين الفرار
وقول آخر:
هلا سألت جموع كف سدة يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر:
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر:
يا جعفر يا جعفر يا جعفر إن أك دحداحاً فأنت أقصر
وقول الآخر:
أتاك أتاك الاحقوك احبس احبس
وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف. وقيل إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقيل إن ما في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة: أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ.
5- "ولا أنتم عابدون ما أعبد"، في الاستقبال.
وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
وقوله: "ما أعبد" أي: من أعبد، لكنه ذكره لمقابلة: "ما تعبدون".
ووجه التكرار: قال أكثر أهل المعاني: هو أن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى مجاز خطابهم، ومن مذاهبهم التكرار، إرادة التوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز.
وقال القتيبي: تكرار الكلام لتكرار الوقت، وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عاماً فادخل في ديننا عاماً، فنزلت هذه السورة.
5-" ولا أنتم عابدون ما أعبد " أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده ، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وأما لم يقل ما عبدت ليطابق " ما عبدتم " لأنهم كانوا موسومين قبل البعث بعبادة الأصنام ، وهو لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله ، وإنما قال " ما " دون من لأن المراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة . وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والآخريان مصدريتان .
5. Nor will ye worship that which I worship.
5 - Nor will ye worship that which I worship.