(أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً) مانعا من عذابه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه : "أولئك"، هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم "الذين لعنهم الله"، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عناداً منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا"، "ومن يلعن الله"، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته، "فلن تجد له نصيرا"، يقول: فلن تجد له، يا محمد، ناصراً ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحل به ، فيدفع ذلك عنه، كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا- يعني من قولهما: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا"- وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الل : "أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا".
قوله تعالى : " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا "
قال الحسن وقتادة: نزلت هذه الاية وهي قوله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" في اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه", وفي قولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى", وقال مجاهد: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنب لهم, وكذا قال عكرمة وأبو مالك, وروى ذلك ابن جرير, وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة وسيشفعون لنا ويزكوننا, فأنزل الله على محمد "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" الاية, رواه ابن جرير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مصفى, حدثنا ابن حمير عن ابن لهيعة, عن بشير بن أبي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان اليهود يقومون صبيانهم يصلون بهم, ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب, وكذبوا, قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له, وأنزل الله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" ثم قال: وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي وعكرمة والضحاك, نحو ذلك, وقال الضحاك: قالوا: ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب, فأنزل الله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" فيهم, وقيل: نزلت في ذم التمادح والتزكية, وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن المقداد بن الأسود قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب, وفي الحديث الاخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة, عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع رجلاً يثني على رجل, فقال "ويحك قطعت عنق صاحبك", ثم قال: "إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة, فليقل أحسبه كذا, ولا يزكي على الله أحداً". وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب: من قال: أنا مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار, ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه فمن قال إنه مؤمن فهو كافر, ومن قال: هو عالم فهو جاهل, ومن قال: إنه في الجنة فهو في النار, وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة وحجاج, أنبأنا شعبة عن سعد بن إبراهيم, عن معبد الجهني, قال: كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين, وإن هذا المال حلو خضر, فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه, وإياكم والتمادح فإنه الذبح" وروى ابن ماجه منه "إياكم والتمادح فإنه الذبح" عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة به, ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري. وقال ابن جرير: حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي, حدثنا أبي عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب, قال: قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء, يلقى الرجل ليس يملك له نفعاً ولا ضراً, فيقول له: إنك والله كيت وكيت, فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء, وقد أسخط الله, ثم قرأ "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" الاية, وسيأتي الكلام على ذلك مطولاً عند قوله تعالى "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" ولهذا قال تعالى: "بل الله يزكي من يشاء" أي المرجع في ذلك إلى الله عز وجل لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها, ثم قال تعالى: "ولا يظلمون فتيلاً" أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة. وعن ابن عباس أيضاً: هو ما فتلت بين أصابعك, وكلا القولين متقارب. وقوله "انظر كيف يفترون على الله الكذب" أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه, وقولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى", وقولهم "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات" واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة, وقد حكم الله أن أعمال الاباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" الاية, ثم قال "وكفى به إثماً مبيناً" أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً. وقوله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" أما الجبت, فقال محمد بن إسحاق, عن حسان بن فائد, عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر, والطاغوت الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي, وعن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن وعطية: الجبت الشيطان, وزاد ابن عباس: بالحبشية وعن ابن عباس أيضاً: الجبت الشرك. وعنه: الجبت الأصنام. وعن الشعبي: الجبت الكاهن, وعن ابن عباس: الجبت حيي بن أخطب, وعن مجاهد: الجبت كعب بن الأشرف, وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح: الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت". قال: وليس هذا من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وهذا الحديث الذي ذكره وراه الإمام أحمد في مسنده, فقال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن حيان أبي العلاء, حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه وهو قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" وقال عوف: العيافة زجر الطير, والطرق الخط يخط في الأرض, والجبت, قال الحسن: إنه الشيطان. وهكذا رواه أبو داود في سننه, والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي به. وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إسحاق بن الضيف, حدثنا حجاج عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن الطواغيت, فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين. وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه, وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك: الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل. وقوله "ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم, وقلة دينهم, وكفرهم بكتاب الله يأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, حدثنا سفيان عن عمرو, عن عكرمة, قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم, فأخبرونا عنا وعن محمد, فقالوا: ما أنتم وما محمد, فقالوا: نحن نصل الأرحام, وننحر الكوماء, ونسقي الماء على اللبن, ونفك العناة, ونسقي الحجيج, ومحمد صنبور قطع أرحامنا, واتبعه سراق الحجيج بنو غفار, فنحن خير أم هو ؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً, فأنزل الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً" الاية, وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة, وأهل السقاية ؟ قال: أنتم خير, قال فنزلت "إن شانئك هو الأبتر" ونزل " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار وحوح بن عامر وهوذة بن قيس, فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل, وكان سائرهم من بني النضير, فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه, فأنزل الله عزو وجل "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" إلى قوله عز وجل "وآتيناهم ملكاً عظيماً" وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الاخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين, وإنما قالوا لهم ذلك, ليستميلوهم إلى نصرتهم, وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق, فكفى الله شرهم "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً".
وقوله 52- "أولئك" إشارة إلى القائلين "الذين لعنهم الله" أي: طردهم وأبعدهم من رحمته "ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً" يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه.
52-"أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً".
52"أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً" يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها.
52. Those are they whom Allah hath cursed, and he whom Allah hath cursed, thou (O Muhammad) wilt find for him no helper.
52 - They are (men) whom God had cursed: and those whom God hath cursed, thou wilt find, have no one to help.