54 - (فذرهم) اترك كفار مكة (في غمرتهم) ضلالتهم (حتى حين) إلى حين موتهم
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فدع يا محمد هؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، في غمرتهم : في ضلالتهم وغيهم . حتى حين : يعني إلى أجل سيأتيهم عند مجيئه عذابي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " فذرهم في غمرتهم حتى حين " قال : في ضلالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " فذرهم في غمرتهم حتى حين " قال : الغمرة : الغمر .
و قوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين " يقول تعالى ذكره : أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين فرقوا دينهم زبرا ، أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال و بنين " نسارع لهم " يقول : نسابق لهم في خيرات الآخرة ، و بنادر لهم فيها ؟ و ما من قوله " أنما نمدهم به " نصب ، لأنها بمعنى الذي " بل لا يشعرون " يقول تعالى ذكره تكذيبا لهم : ما ذلك كذلك ، بل لا يعلمون أن إمدادي إياهم أمدهم به من ذلك ، إنما هو إملاء و استدراج لهم .
و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن نحيح ، عن مجاهد ، " أنما نمدهم " قال : نعطيهم ، نسارع لهم ، قال : نزيدهم في الخير ، نملي لهم ، قال : هذا لقريش .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو بن علي ، قال : ثني أشعث بن عبد الله ، قال : ثنا شعبة ، عن خالد الحذاء ، قال : قلت لعبد الرحمن بن أبي بكرة ، قول الله" نسارع لهم" إمدادنا إياهم بالمال والبنين في الخيرات .
وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلاً بقوله: " فذرهم في غمرتهم حتى حين " أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شئ وقت. والغمرة في اللغة ما يغمرك وما يعلوك، وأصله الستر، ومنه الغمر الحقد لأنه يغطي القلب. والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء، قال:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
المراد هنا الحيرة والغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم. وقوله تعالى: " حتى حين " قال مجاهد : حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت، كما يقال: سيأتي لك اليوم.
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال, فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح, فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام, وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالةً ونصحاً, فجزاهم الله عن العباد خيراً. قال الحسن البصري في قوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات" قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم, ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك "كلوا من الطيبات" يعني الحلال. وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه, وفي الصحيح "وما من نبي إلا رعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة". وفي الصحيح "إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده". وفي الصحيحين "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب القيام إلى الله قيام داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع , حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال: " بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم, وذلك في أول النهار وشدة الحر, فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت: اشتريتها من مالي, فشرب منه, فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن, مرثية لك من طول النهار, وشدة الحر, فرددت إلي الرسول فيه, فقال لها: بذلك أمرت الرسل: أن لا تأكل إلا طيباً, ولا تعمل إلا صالحاً". وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له, من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم" وقال: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب فأنى يستحاب لذلك" وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق .
وقوله: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة" أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ولهذا قال "وأنا ربكم فاتقون" وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء, وأن قوله "أمة واحدة" منصوب على الحال. وقوله: "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً" أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء "كل حزب بما لديهم فرحون" أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون, ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً: "فذرهم في غمرتهم" أي في غيهم وضلالهم "حتى حين" أي إلى حين حينهم وهلاكهم, كما قال تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً" وقال تعالى: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون".
وقوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم " نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم, بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء, ولهذا قال: "بل لا يشعرون" كما قال تعالى: "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا" الاية. وقال تعالى: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" وقال تعالى: "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم" الاية, وقال: " ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا " وقال تعالى: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً" الاية, والايات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم, يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم, ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد , حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني , حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم, وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه, ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا: وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال: غشمه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق به فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
54- "فذرهم في غمرتهم حتى حين" أي اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية، ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وقت، شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه، والغمرة في الأصل ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر، والغمر: الماء الكثير لأنه يغطي الأرض، وغرم الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء، ويقال للحقد الغمر، والمراد هنا: الحيرة والغفلة والضلالة، والآية خارجة مخرج التهديد لهم، لا مخرج الأمر له صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم، ومعنى "حتى حين" حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل، أو حتى يموتوا على الكفر فيعذبون في النار.
54. " فذرهم في غمرتهم "، قال ابن عباس: في كفرهم وضلالتهم، وقيل: عمايتهم، وقيل: غفلتهم " حتى حين "، إلى أن يموتوا.
54ـ " فذرهم في غمرتهم " في جهالتهم شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيهما أو لاعبون بها ، وقرئ في (( غمراتهم )) . " حتى حين " إلى أن يقتلوا أو يموتوا .
54. So leave them in their error till a time.
54 - But leave them in their confused ignorance for a time.