54 - (إن المتقين في جنات) بساتين (ونهر) أريد به الجنس وقرىء بضم النون والهاء جمعا كأسد وأسد والمعنى أنهم يشربون من أنهارها الماء واللبن والعسل والخمر
وقوله " إن المتقين في جنات ونهر " يقول تعالى ذكره : إن الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه في بساتين يوم القيامة وأنهار ووحد النهر في اللفظ ومعناه الجمع كما وحد الدبر ومعناه الإدبار في قوله " يولون الدبر " وقد قيل : إن معنى ذلك : إن المتقين في سعة يوم القيامة وضياء فوجهوا معنى قوله " ونهر " إلى معنى النهار وزعم القراء أنه سمع بعض العرب ينشد :
إن تك ليليا فإني نهر متى اتى الصبح فلا أنتظر
وقوله " نهر " على هذا التأويل مصدر من قولهم : نهرت أنهر نهراً وعني بقوله : فإني نهر : أي إني لصاحب نهار : أي لست بصاحب ليلة .
قوله تعالى " إن المتقين في جنات ونهر " لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا ونهر يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن ، قاله ابن جريج ووحد لأنه رأس الآية ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع ، وقيل : في نهر في ضياء وسعة ، ومنه النهار لضيائه ومنه أنهرت الجرح قال الشاعر :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والأعرجوطلحة بن مصرف وقتادة ونهر بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم كسحاب وسحب قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
إن تك ليليا فإني نهر متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار . وقال آخر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الاراء, وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق, ثم قال تعالى: "يوم يسحبون في النار على وجوههم" أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار, وكما كانوا ضلالاً يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون, ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: "ذوقوا مس سقر". وقوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" كقوله: "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" وكقوله تعالى: " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه, ولهذا يستدل بهذه الاية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه, وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها, وردوا بهذه الاية وبما شاكلها من الايات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية, الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة, وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلاً وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله, ولنذكر ههنا الأحاديث المتعلقة بهذه الاية الكريمة.
قال أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي, عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت "يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري به. وقال البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا الضحاك بن مخلد, حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ما نزلت هذه الايات "إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي, حدثني قرة بن حبيب عن كنانة, حدثني جرير بن حازم عن سعيد بن عمرو بن جعدة, عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الاية "ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" قال: "نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله".
وحدثنا الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج, عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم, وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في القدر, فقال: أوقد فعلوها ؟ قلت: نعم, قال: فوالله ما نزلت هذه الاية إلا فيهم "ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" أولئك شرار هذه الأمة, فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم, إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين. وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر وفيه مرفوع فقال: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا الأوزاعي عن بعض إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال: قيل له إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر, فقال: دلوني عليه وهو أعمى, قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس ؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه, ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات, هذا أول شرك هذه الأمة, والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً, كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً" ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن الأوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد: حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني أبو صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه. فكتب إليه عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر, فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر" ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به.
وقال أحمد: حدثنا أنس بن عياض, حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة مجوس, ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر, إن مرضوا فلا تعودوهم, وإن ماتوا فلا تشهدوهم" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. وقال أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صخر حميد بن زياد به, وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن الطباع, أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم, عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم منفرداً به من حديث مالك.
وفي الحديث الصحيح "استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل, ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك, ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك جفت الأقلام وطويت الصحف" وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سوار, حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن زياد, حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة, حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي, فقال: أجلسوني, فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك, يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار.
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال: حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن خراش, عن رجل عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله بعثني بالحق, ويؤمن بالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر خيره وشره" وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به, ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال: هذا عندي أصح, وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك عن منصور عن ربعي عن علي به. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانىء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب "وكان عرشه على الماء" ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وقوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه, كما أخبرنا بنفوذ قدره فيهم فقال: "وما أمرنا إلا واحدة" أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية, فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلاً موجوداً كلمح البصر, لا يتأخر طرفة عين, وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قولة فيكون
وقوله تعالى: "ولقد أهلكنا أشياعكم" يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل "فهل من مدكر" أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب, كما قال تعالى: "وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل" وقوله تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر" أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام "وكل صغير وكبير" أي من أعمالهم "مستطر" أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك, سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير, حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً" ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني, وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان:
لا تحقرن من الذنـــوب صغيـــــراً إن الصغير غداً يعود كبيــرا
إن الصغير ولو تقــــــادم عهــــده عند الإله مسطراً تسطيـــــرا
فازجر هواك على البطالة لا تكـن صعب القياد وشمرن تشميرا
إن المحـــــــــب إذا أحب إلهـــــه طار الفؤاد وألهم التفكيــــرا
فاسأل هدايتـــــــك الإلـــه بنيـــــة فكفى بربك هادياً ونصيـــرا
وقوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر" أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم, مع التوبيخ والتقريع والتهديد. وقوله تعالى: "في مقعد صدق" أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه "عند مليك مقتدر" أي عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها. وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" انفرد بإخراجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله.
آخر تفسير سورة اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
54- "إن المتقين في جنات ونهر" أي في بساتين مختلفة وجنان متنوعة وأنها متدفقة. قرأ الجمهور "ونهر" بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة وقرأ مجاهد والأعرج وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز وأبو نهشل والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة نهر بضم النون والهاء على الجمع.
54. " إن المتقين في جنات "، بساتين، " ونهر "، أي أنهار، ووحده لأجل رؤوس الآي، وأراد أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقال الضحاك : يعني في ضياء وسعة ومنه النهار. وقرأ الأعرج ((ونهر))، بضمتين جمع نهار يعني: نهاراً لا ليل لهم.
54-" إن المتقين في جنات ونهر " أنهار واكتفى باسم الجنس ، أو سعة أو ضياء من النهار . وقرئ " نهر" وبضم الهاء جمع نهر كأسد و أسد .
54. Lo! the righteous will dwell among gardens and rivers,
54 - As to the Righteous, they will be in the midst of Gardens and Rivers,