56 - (نسارع) نعجل (لهم في الخيرات) لا (بل لا يشعرون) أن ذلك استدراج لهم
القول في تأويل قوله تعالى : " نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة " يسارع " بالياء، علىأن يكون فاعله إمدادنا. وهذا يجوز أن يكون على غير حذف، أي يسارع لهم الإمداد. ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم. وقرئ يسارع لهم في الخيرات وفيه ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به. ويجوز أن يكون يسارع الأمداد. ويجوز أن يكون " لهم " اسم ما لم يسم فاعله، ذكره النحاس . قال المهدوي : وقرأ الحر النحوي نسرع لهم في الخيرات وهو معنى قراءة الجماعة. قال الثعلبي : والصواب قراءة العامة، لقوله " نمدهم ". " بل لا يشعرون " أن ذلك فتنة لهم واستدراج.
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال, فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح, فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام, وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالةً ونصحاً, فجزاهم الله عن العباد خيراً. قال الحسن البصري في قوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات" قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم, ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك "كلوا من الطيبات" يعني الحلال. وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه, وفي الصحيح "وما من نبي إلا رعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة". وفي الصحيح "إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده". وفي الصحيحين "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب القيام إلى الله قيام داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع , حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال: " بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم, وذلك في أول النهار وشدة الحر, فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت: اشتريتها من مالي, فشرب منه, فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن, مرثية لك من طول النهار, وشدة الحر, فرددت إلي الرسول فيه, فقال لها: بذلك أمرت الرسل: أن لا تأكل إلا طيباً, ولا تعمل إلا صالحاً". وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له, من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم" وقال: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب فأنى يستحاب لذلك" وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق .
وقوله: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة" أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ولهذا قال "وأنا ربكم فاتقون" وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء, وأن قوله "أمة واحدة" منصوب على الحال. وقوله: "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً" أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء "كل حزب بما لديهم فرحون" أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون, ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً: "فذرهم في غمرتهم" أي في غيهم وضلالهم "حتى حين" أي إلى حين حينهم وهلاكهم, كما قال تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً" وقال تعالى: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون".
وقوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم " نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم, بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء, ولهذا قال: "بل لا يشعرون" كما قال تعالى: "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا" الاية. وقال تعالى: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" وقال تعالى: "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم" الاية, وقال: " ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا " وقال تعالى: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً" الاية, والايات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم, يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم, ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد , حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني , حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم, وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه, ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا: وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال: غشمه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق به فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
56- "نسارع" به "لهم" فيما فيه خيرهم وإكرامهم، والهمزة للإنكار، والجواب عن هذا مقدر يدل عليه قوله: "بل لا يشعرون" لأنه عطف على مقدر ينسحب إليه الكلام: أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلاً كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خولناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثماً كما قال سبحانه: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً". قال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، فحذفت به، وما في أنما موصولة، والرابط هو هذا المحذوف. وقال الكسائي: إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط. قيل ويجوز الوقف على بنين، وقيل لا يحسن لأن يحسبون يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين في الخيرات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ لأن ما كافة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء التحتية على أن فاعله ما يدل عليه أمددنا، وهو الإمداد، ويجوز أن يكون المعنى: يسارع الله لهم. وقرأ الباقون "نسارع" بالنون. قال الثعلبي: وهذه القراءة هي الصواب لقوله نمدهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم أرسلنا رسلنا تتراً" قال: يتبع بعضهم بعضاً. وفي لفظ قال: بعضهم على إثر بعض. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" قال: ولدته من غير أب. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس آية قال: عبرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وآويناهما إلى ربوة" قال: الربوة المستوية، والمعين: الماء الجاري، وهو النهرا الذي قال الله "قد جعل ربك تحتك سرياً". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "وآويناهما إلى ربوة" قال: هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات "ذات قرار" ذات خصب، والمعين: الماء الظاهر. وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر. قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: "إلى ربوة" قال: أنبئنا أنها دمشق. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه. وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعاً نحوه، وإسناده ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن مرة النهزي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الربوة الرملة". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى، وابن عساكر عن أبي هريرة قال: هي الرملة بفلسطين. وأخرج ابن مردويه من حديثه مرفوعاً. وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفي العكي مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم" أو قال "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، فأنى يستجاب لذلك". وأخرج سعيد بن منصور عن حفص الفزاري في قوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات" قال: ذلك عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه. وأخرجه عبدان في الصحابة عن حفص مرفوعاً، وهو مرسل لأن حفصاً تابعي.
56. " نسارع لهم في الخيرات "، أي: نعجل لهم في الخيرات، ونقدمها ثواباً لأعمالهم لمرضاتنا عنهم، " بل لا يشعرون "، أن ذلك استدراج لهم. ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال:
56ـ " نسارع لهم في الخيرات " والراجع محذوف والمعنى : أيحسبون أن الذي نمدهم به تسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم " بل لا يشعرون " بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير ، وقرئ (( يمدهم )) على الغيبة وكذلك (( يسارع )) و (( يسرع )) ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و (( يسارع )) مبنياً للمفعول .
56. We hasten unto them with good things? Nay, but they perceive not.
56 - We would hasten them on in every good? Nay, they do not understand.