56 - (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) في أرض تيسرت فيها العبادة بأن تهاجروا إليها من أرض لم تتيسر فيها ونزل في ضعفاء مسلمي مكة كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من عباده: يا عبادي الذين وحدوني وآمنوا بي وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم " إن أرضي واسعة ".
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أريد من الخبر عن سعة الأرض، فقال بعضهم: أريد بذلك أنها لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير في قوله " إن أرضي واسعة " قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، في قوله " إن أرضي واسعة " قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: اهربوا فإن أرضي واسعة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن منصور، عن عطاء، قال: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن منصورن عن عطاء " إن أرضي واسعة ": قال: مجانبة أهل المعاصي.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله " إن أرضي واسعة "، فهاجروا وجاهدوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " فقلت: يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين؟ فقال: نعم.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن ما أخرج من أرضي لكم من الرزق واسع لكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني زيد بن الحباب، عن شداد بن سعيد بن مالك أبي طلحة الراسبي عن غيلان بن جرير المعولي، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري، في قول الله " إن أرضي واسعة ": قال: إن رزقي لكم واسع.
حدثنا ابن وكيع، قال ثنا زيد بن حباب، عن شداد، عن غيلان بن جرير، عن مطرف بن الشيخر " إن أرضي واسعة " قال: رزقي لكم واسع.
وأولى القولين بتأويل الآية: قول من قال: معنى ذلك: إن أرضي واسعة، فاهربوا ممن منعكم من العمل بطاعتي لدلالة قوله " فإياي فاعبدون " على ذلك، وأن ذلك هو أظهر معنييه، وذلك أن الأرض إذا وصفها بصفة، فالغالب من وصفه إياها بذلك، أنها لا تضيق جميعها على من ضاق عليه منها موضع، لا أنه وصفها بكثرة الخير والخصب.
وقوله " فإياي فاعبدون " يقول: فأخلصوا لي عبادتكم وطاعتكم، ولا تطيعوا في معصيتي أحداً.
قوله تعالى : " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة " هذا الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة _ في قول مقاتل و الكلبي _ فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه ، وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب . بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه ، وأن القاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب . بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده ، أي إن كنت م في ضيق من إضهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة ، لإضهار التوحيد بها . وقال ابن جبير و عطاء : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق .وقاله مالك . وقال مجاهد : ( إن أرضي واسعة ) فهاجروا وجاهدوا . وقال مطرف بن الشخير : المعنى إن رحمتي واسعة . وعنه أيضاً : إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض . قال سفيان الثوري : إذا كنت بأرض غالية فانتقل إل ى غيرها تملأ فيها جرابك خبزاً بدرهم .وقيل : المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة. " فاعبدون " حتى أورثكموها . ( فإياي فاعبدون ) ( إياي ) منصوب بفعل مضمر ، أي فاعبدوا إياي فاعبدون ، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني ، والفاء في قوله : ( فإياي ) بمعنى الشرط ، أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره ، لأن أرضي واسعة .
هذا أمر من الله تعالى المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين, بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم, ولهذا قال تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون" قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه , حدثنا بقية بن الوليد , حدثني جبير بن عمرو القرشي , حدثني أبو سعد الأنصاري عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله, والعباد عباد الله, فحيثما أصبت خيراً فأقم" ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها, خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك, فوجدوا خير المنزلين هناك: أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى, فآواهم وأيدهم بنصره, وجعلهم سيوماً ببلاده, ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة.
ثم قال تعالى: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" أي أينما كنتم يدرككم الموت, فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله, فهو خير لكم, فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه, ثم إلى الله المرجع والمآب, فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء, ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار" أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن, يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا "خالدين فيها" أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولا "نعم أجر العاملين" نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين "الذين صبروا" أي على دينهم. وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء, وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده وتصديق موعده.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي , أخبرنا صفوان المؤذن , أخبرنا الوليد بن مسلم , أخبرنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود , حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حدثه أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها, وباطنها من ظاهرها, أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام, وأطاب الكلام, وتابع الصلاة والصيام, وقام بالليل والناس نيام "وعلى ربهم يتوكلون" في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة, بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا, بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب, فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار, ولهذا قال تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها" أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد "الله يرزقها وإياكم" أي الله يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها, فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض, والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي , حدثنا يزيد يعني ابن هارون , حدثنا الجراح بن منهال الجزري ـ هو أبو العطوف ـ عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال: " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة, فجعل يلتقط من التمر ويأكل, فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟ قال: قلت لا أشتهيه يا رسول الله, قال لكني أشتهيه, وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده, ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟ قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا, ولا باتباع الشهوات, فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية, فإن الحياة بيد الله, ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد" هذا حديث غريب, وأبو العطوف الجزري ضعيف, وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض, فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش, فيظل الفرخ فاتحاً فاه يتفقد أبويه فيقيض الله تعالى طيراً صغاراً كالبرغش, فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه, والأبوان يتفقدانه كل وقت, فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه, فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق, ولهذا قال الشاعر:
يا رازق النعاب في عشه وجابر العظم الكسير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وترزقوا" قال البيهقي : أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , أخبرنا أحمد بن عبيد , أخبرنا محمد بن غالب , حدثني محمد بن سنان , أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن رداد شيخ من أهل المدينة, حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وتغنموا" قال: ورويناه عن ابن عباس : وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سافروا تربحوا وصوموا تصحوا, واغزوا تغنموا" وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعاً, وعن معاذ بن جبل موقوفاً, وفي لفظ "سافروا مع ذوي الجد والميسرة" قال: ورويناه عن ابن عباس : وقوله: "وهو السميع العليم" أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم.
لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه: 56- "يا عبادي الذين آمنوا" أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفاً وتكريماً، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة "إن أرضي واسعة" إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فاخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل عليكم. قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. وقال مطرف بن الشخير: المعنى إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض. وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها. وانتصاب إياي بفعل مضمر: أي فاعبدوا إياي.
56- "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون"، قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة، إن أرضي -يعني المدينة- واسعة آمنة.
قال مجاهد: إن أرضي المدينة واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها.
وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة. وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة. وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة.
وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى، إن هاجرنا، من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج.
وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة أي: رزقي لكم واسع فاخرجوا.
56ـ " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك ، " وعنه عليه الصلاة والسلام من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام " . والفاء دواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها .
56. O my bondmen who believe! Lo! My earth is spacious. Therefor serve Me only.
56 - My servants who believe! truly, spacious is My Earth: Therefore serve ye Me (and Me alone).