(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفِّيهم) بالياء والنون (أجورهم والله لا يحب الظالمين) أي يعاقبهم ، روي أن الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها إن القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة ، وعاشت أمه بعده ست سنين وروى الشيخان حديث "أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية" وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين وفي حديث عن أبي داود الطيالسي أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده
وأما قوله : "وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، فإنه يعني تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول : صدقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به ، وعملوا بما فرضت من فرائضي على لسانك ، وشرعت من شرائعي ، وسننت من سنني ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "وعملوا الصالحات"، يقول : أدوا فرائضي.
"فيوفيهم أجورهم"، يقول : فيعطيهم جزاء أعمالهم كاملاً، لا يبخسون منه شيئاً ولا ينقصونه. وأما قوله : "والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني : والله لا يحب من ظلم غيره حقاً له ، أو وضع شيئاً في غير موضعه.
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عباده ، فيجازي المسيء ممن كفر جزاء المحسنين مس آمن به ، أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه ، جزاء المسيئين ممن كفر به وكذب رسله وخالف أمره ونهيه . فقال : إني لا أحب الظالمين ، فكيف أظلم خلقي؟ وهذا القول من الله تعالى ذكره وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيد منه للكافرين به وبرسله ، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله ، لأنه أعلم الفريقين جميعاً أنه لا يبخس هذا المؤمن حقه ، ولا يظلم كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه ، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالماً.
" وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين "
اختلف المفسرون في قوله تعالى: " إني متوفيك ورافعك إلي " فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر, تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك, يعني بعد ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إني متوفيك, أي مميتك. وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه , قال: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه, قال ابن إسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات, ثم أحياه. وقال إسحاق بن بشر , عن إدريس عن وهب : أماته الله ثلاثة أيام, ثم بعثه, ثم رفعه. وقال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا, وليس بوفاة موت, وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه, وقال الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا ـ النوم, كما قال تعالى: "وهو الذي يتوفاكم بالليل" الاية. وقال تعالى "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها" الاية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم, " يقول إذا قام من النوم: الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا" الحديث, وقال تعالى: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " والضمير في قوله "قبل موته" عائد على عيسى عليه السلام, أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى, وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه, فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم, لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أحمد بن عبد الرحمن , حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , حدثنا الربيع بن أنس , عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: "إني متوفيك" يعني وفاة المنام, رفعه الله في منامه. قال الحسن : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود إن عيسى لم يمت, وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " وقوله تعالى: "ومطهرك من الذين كفروا" أي برفعي إياك إلى السماء "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام, لما رفعه الله إلى السماء, تفرقت أصحابه شيعاً بعده, فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته, ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله, وآخرون قالوا: هو الله, وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق, فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة, ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين, فدخل في دين النصرانية, قيل: حيلة ليفسده, فإنه كان فيلسوفاً, وقيل: جهلاً منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه, وزاد فيه ونقص منه, ووضعت له القوانين, والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة, وأحل في زمانه لحم الخنزير, وصلوا له إلى المشرق, وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع, وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون, وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد, وبنى المدينة المنسوبة إليه, واتبعه الطائفة الملكية منهم, وهم في هذا كله قاهرون لليهود, أيدهم الله عليهم, لأنهم أقرب إلى الحق منهم, وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم, فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق, كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض, إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي, خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق, الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق, فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته, مع ما قد حرفوا وبدلوا, ثم لو لم يكن شيء من ذلك, لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة, ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين, فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها, واجتازوا جميع الممالك, ودانت لهم جميع الدول, وكسروا كسرى, وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما, وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " الاية, فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً, سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية, ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال, ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً, لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها, وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً, ولهذا قال تعالى: " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى, عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي, وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك, وفي الدار الاخرة عذابهم أشد وأشق "وما لهم من الله من واق" "وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم" أي في الدنيا والاخرة, في الدنيا بالنصر والظفر, وفي الاخرة بالجنات العاليات "والله لا يحب الظالمين".
ثم قال تعالى: " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفيه أمره, وهو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ, فلا مرية فيه ولا شك, كما قال تعالى في سورة مريم "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" وههنا قال تعالى:)
قوله 57- " فيوفيهم أجورهم " أي: نعطيهم إياها كامة موفرة، قرئ بالتحتية وبالنون. وقوله "لا يحب الظالمين" كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.
57-"وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم" قرأ الحسن وحفص بالياء، والباقون بالنون أي نوفي أجور أعمالهم " والله لا يحب الظالمين" أي لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل.
57" وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم " تفسير للحكم وتفصيل لهز وقرأ حفص "فيوفيهم" بالياء. "والله لا يحب الظالمين" تقرير لذلك.
57. And as for those who believe and do good works, He will pay them their wages in full. Allah loveth not wrongdoers.
57 - As to those who believe and work righteousness, God will pay them (in full) their reward; but God loveth not those who do wrong.