59 - (وعنده) تعالى (مفاتح الغيب) خزائنه أو الطرق الموصلة إلى علمه (لا يعلمها إلا هو) وهي الخمسة التي في قوله {إن الله عنده علم الساعة} الآية كما رواه البخاري (ويعلم ما) يحدث (في البر) القفار (والبحر) القرى التي على الأنهار (وما تسقط من) زائدة (ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) عطف على ورقة (إلا في كتاب مبين) هو اللوح المحفوظ والاستئناف بدل اشتمال من الاستثناء قبله
قال أبو جعفر: يقول : وعند الله مفاتح الغيب .
والمفاتح جمع مفتح، يقال فيه: مفتح ومفتاح . فمن قال : مفتح، جمعه مفاتح ، ومن قال : مفتاح ، جمعه مفاتيح.
ويعني بقوله : "وعنده مفاتح الغيب"، خزائن الغيب ، كالذي :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وعنده مفاتح الغيب"، قال ، يقول : خزائن الغيب .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود قال : أعطي نبيكم كل فيء إلا مفاتح الغيب .
حدثا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس : "وعنده مفاتح الغيب"، قال : هن خمس : "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث" إلى "إن الله عليم خبير" [لقمان :34 ].
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذاً: والله أعلم بالظالمين من خلقه ، وما هم مستحقوه وما هو بهم صانع ، فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه ، ولن يعلموه ولن يدركوه ، "ويعلم ما في البر والبحر"، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضا عنكم ، لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين يعلمه العباد. فكان معنى الكلام : وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه ، ويعلم أيضاً مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ، لا يخفى عليه شيء ، لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم . فأخبر تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون ، وما هوكائن مما لم يكن بعد، وذلك هو الغيب .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ولا تسقط ورقة في الصحارى والبراري ، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها، "ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين"، يقول : ولاشيء أيضا مما هوموجود، أو مما سيوجد ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ ، مكتوب ذلك فيه ، ومرسوم عدده ومبلغه ، والوقت الذي يوجد فيه ، والحال التي يفنى فيها.
ويعني بقوله : "مبين" أنه يبين عن صحة ما هو فيه ، بوجود ما رسم فيه على ما رسم .
فإن قال قائل : وما وجه إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين ، ما لا يخفى عليه ، وهو بجميعه عالم لا يخاف نسيانه ؟
قيل له : لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانا منه لحفظته ، واختباراً للمتوكلين بكتابة أعمالهم ، فإنهم فيما ذكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم . وقيل إن ذلك معنى قوله : "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" [الجاثية : 29]. وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك ، مما هو أعلم به ، إما بحجة يحتج بها على بعض ملائكته ، وإما على بني آدم وغير ذلك ، وقد:
حدثني زياد بن يحيى الحساني أبو الخطاب قال ، حدثنا مالك بن سعير قال ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله بعلمها: يبسها إذا يبسط ، ورطوبتها إذا رطبت .
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك. وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله". وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت:
من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله". ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. ويقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع مفاتيح. والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوساً كان كالقفل على البيت أو معقولا كالنظر. وروى ابن ماجة في سننه و أبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه". وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس افتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه. لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: "وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" وقال: "إلا من ارتضى من رسول" [الآية] وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي و الحسن. و مقاتل و الضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال، إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم.
الثانية-: قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده. فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيهاً بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء، قال الله تعالى: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب" على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضاً. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: "والقمر قدرناه منازل". وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره، فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
قلت: ومن هذا الباب أيضا ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أتى عرافاً [فسأله عن شيء] لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة (بالياء). وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض. والكهانة ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الكافي: من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر، لقوله عليه السلام: "لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقاً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة". قال الحميدي: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة "عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم". وسيأتي هذا المعنى في سبأ إن شاء الله تعالى.
الثالثة-: قوله تعالى: "ويعلم ما في البر والبحر" خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان" وذلك قوله في محكم كتابه: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس يسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى وما تسقط من ورقة أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، وظلمات الأرض بطونها وهذا أصح، فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل: "في ظلمات الأرض" يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. "ولا رطب ولا يابس" بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ابن السميقع و الحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع من ورقة، فـ من على هذا للتوكيد. "إلا في كتاب مبين"أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.
يقول تعالى: وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل, على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد, " كذلك نفصل الآيات " أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها, "ولتستبين سبيل المجرمين" أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل, وقرىء "ولتستبين سبيل المجرمين" أي ولتستبين يا محمد, أو يا مخاطب سبيل المجرمين, وقوله "قل إني على بينة من ربي" أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي "وكذبتم به" أي بالحق الذي جاءني من الله "ما عندي ما تستعجلون به" أي من العذاب "إن الحكم إلا لله" أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله, إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك, وإن شاء أنظركم وأجلكم, لما له في ذلك من الحكمة العظيمة, ولهذا قال "يقص الحق وهو خير الفاصلين" أي وهو خير من فصل القضايا, وخير الفاتحين في الحكم بين عباده, وقوله "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم" أي لو كان مرجع ذلك إلي, لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك, والله أعلم بالظالمين, فإن قيل: فما الجمع بين هذه الاية وبين ما ثبت في الصحيحين, من طريق ابن وهب, عن يونس, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة, إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال, فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي, فإذا أنا بسحابة قد ظللتني, فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام, فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك, وقد بعث إليك ملك الجبال, لتأمره بما شئت فيهم, قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي, ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك, وقد بعثني ربك إليك, لتأمرني بأمرك فيما شئت, إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم, من يعبد الله لا يشرك به شيئاً" وهذا لفظ مسلم, فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم, فاستأنى بهم, وسأل لهم التأخير, لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً, فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الاية الكريمة, "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين" فالجواب والله أعلم, أن هذه الاية دلت, على أنه لو كان إليه وقوع العذاب, الذي يطلبونه حال طلبهم له, لأوقعه بهم, وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم, بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين, وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوباً وشمالاً, فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم. وقوله تعالى: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله, حدثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " وفي حديث عمر: أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي, فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله له: "خمس لا يعلمهن إلا الله" ثم قرأ "إن الله عنده علم الساعة" الاية. وقوله "ويعلم ما في البر والبحر" أي محيط علمه الكريم بجميع الموجودات, بريها وبحريها, لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء, وما أحسن ما قال الصرصري:
فلا يفخى عليه الذر إما تراءى للنواظر أو توارى
وقوله "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات, فما ظنك بالحيوانات, ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم, كما قال تعالى: "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص, عن سعيد بن مسروق, حدثنا حسان النمري, عن ابن عباس, في قوله "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" قال: ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها, يكتب ما يسقط منها, رواه ابن أبي حاتم, وقوله "ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين" قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري, حدثنا مالك بن سعير, حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث, قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة, إلا وعليها ملك موكل, يأتي الله بعلمها, رطوبتها إذا رطبت, ويبوستها إذا يبست, وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني, عن مالك بن سعير به. ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي حذيفة, حدثنا سفيان عن عمرو بن قيس, عن رجل, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: خلق الله النون وهي الدواة, وخلق الألواح, فكتب فيها أمر الدنيا, حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق, أو رزق حلال أو حرام, أو عمل بر أو فجور, وقرأ هذه الاية "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" إلى آخر الاية, قال محمد بن إسحاق: عن يحيى بن النضر, عن أبيه, سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص, يقول: إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن, مالو أنهم ظهروا, يعني لكم, لم تروا معهم نوراً على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عز وجل, على كل خاتم ملك من الملائكة, يبعث الله عز وجل إليه في كل يوم ملكاً من عنده أن احتفظ بما عندك .
قوله: 59- "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" المفاتح جمع مفتح بالفتح: وهو المخزن: أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع (وعنده مفاتيح الغيب) فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن. وقوله: "لا يعلمها إلا هو" جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجاً أولياً. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد". قوله: "ويعلم ما في البر والبحر" خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله: أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم: أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه، وقيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه "ولا حبة" كائنة "في ظلمات الأرض" أي في الأمكنة المظلمة، وقيل في بطن الأرض: "ولا رطب ولا يابس" بالخفض عطفاً على حبة: وهي معطوفة على ورقة. وقرأ ابن السميفع والحسن وغيرهما بالرفع عطفاً على موضع من ورقة، وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات. قوله: "إلا في كتاب مبين" هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من "إلا يعلمها" وقيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: "قل إني على بينة من ربي" قال: على ثقة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" قال: لقامت الساعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وعنده مفاتح الغيب" قال: يقول خزائن الغيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وعنده مفاتح الغيب" قال: هن خمس "إن الله عنده علم الساعة" إلى قوله: "عليم خبير". وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" قال: ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله: "وما تسقط من ورقة" قال: لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها". وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان ابن فلان" فذلك قوله تعالى: "وما تسقط من" الآية. وقد رواه ابن يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية: "ولا رطب ولا يابس" فقال: الرطب واليابس من كل شيء.
59- قوله عز وجل: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو "،مفاتح الغيب خزائنه، جمع مفتح.
واختلفوا في مفاتح الغيب، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبوالحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى، [ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل]، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله ". وكما قال الله تعالى: " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ".
وقال الضحاك و مقاتل : مفاتح الغيب خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء : ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.
وقيل: انقضاء الآجال، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل: هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون، وما يكون كيف يكون، ومالا يكون أن لو كان كيف يكون ؟ وقال ابن مسعود): أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب).
" ويعلم ما في البر والبحر "، قال مجاهد : البر: المفاوز والقفار، والبحر: القرى والأمصار، لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه، وقيل: هو البر والبحر المعروف، " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها "، يريد ساقطة وثابتة، يعني: يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه، وقيل: يعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض، " ولا حبة في ظلمات الأرض "، قيل: هو الحب المعروف في بطون الأرض، وقيل: هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين " ولا رطب ولا يابس "، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرطب الماس، واليابس البادية، وقال عطاء : يريد ما ينبت ومالا ينبت، وقيل: ولا حي ولا ميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء، " إلا في كتاب مبين "، يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .
59 " وعنده مفاتح الغيب " خزائنه جمع مفتح الميم ، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده أنه قرئ مفاتيح والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها . " لا يعلمها إلا هو " فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها . " ويعلم ما في البر والبحر " عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات " ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس " معطوفات على ورقة وقوله "إلا في كتاب مبين " بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى ، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر " إلا في كتاب مبين "
59. And with Him are the keys of the invisible. None but He knoweth them. And He knoweth what is in the land and the sea. Not a leaf falleth but He knoweth it, not a grain amid the darkness of the earth, naught of wet or dry but (it is noted) in a clear record.
59 - With him are the keys of the unseen, the treasures that none knoweth but he. he knoweth whatever there is on the earth and in the sea. not a leaf doth fall but with his knowledge: there is not a grain in the darkness (or depths) of the earth, nor anything fresh or dry (green or withered), but is (inscribed) in a record clear (to those who can read).