75 - (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) جوع أصابهم بمكة سبع سنين (للجوا) تمادوا (في طغيانهم) ضلالتهم (يعمهون) يترددون
القول في تأويل قوله تعالى : " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون " .
قوله تعالى: " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم " للجوا في طغيانهم " قال السدي في معصيتهم. " يعمهون " قال الأعمش: يترددون. وقال ابن جريج : " ولو رحمناهم " يعني في الدنيا " وكشفنا ما بهم من ضر " أي من قحط وجوع " للجوا " أي لتمادوا " في طغيانهم " وضلالتهم وتجاوزهم الحد " يعمهون " يتذبذبون ويخبطون.
يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير, فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وقال قتادة "أفلم يدبروا القول" إذ والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: "أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون" أي أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه, ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته, وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا, ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: "أم يقولون به جنة" يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول, وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الابدين ولهذا قال: "بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون" يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له "أسلم فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وإن كنت كارها". وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له "أسلم فتصعده ذلك, وكبر عليه, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث, فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه, فدعاك إلى طريق واسع سهل, أكنت تتبعه ؟ قال: نعم. قال : فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه, وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه" وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له "أسلم فتصعده ذلك, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك, وإذا ائتمنته أدى إليك, أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟ قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم كذاكم أنتم عند ربكم".
وقوله: "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن" قال مجاهد وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز وجل, والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى, وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها, كما أخبر عنهم في قولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ثم قال: "أهم يقسمون رحمة ربك" وقال تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق" الاية. وقال تعالى: "أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيراً" ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم, وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه, تعالى وتقدس, فلا إله غيره ولا رب سواه, ولهذا قال: "بل أتيناهم بذكرهم" أي القرآن "فهم عن ذكرهم معرضون".
وقوله: "أم تسألهم خرجاً" قال الحسن : أجراً. وقال قتادة : جعلاً "فخراج ربك خير" أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى, بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه, كما قال: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله" وقال: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" وقال: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" وقال: " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا ".
وقوله: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى , حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان, فقعد أحدهما عند رجليه, والاخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته, فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة, فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به, فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة, فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم, قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء, فأكلوا وشربوا وسمنوا, فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ قالوا: بلى, قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني, قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه, وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه " .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير , حدثنا يونس بن محمد , حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري , حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار, وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب, فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض, فتردون علي معاً وأشتاتاً أعرفكم بسيماكم وأسمائكم, كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله, فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال, فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي, فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم, فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً لها حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت" وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول, لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضاً أشعث بن إسحاق , وقال فيه يحيى بن معين : صالح , ووثقه النسائي وابن حبان .
وقوله: " وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " أي لعادلون جائرون منحرفون, تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله: "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون" يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم, كما قال تعالى "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" وقال: " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون * وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون, قال الضحاك عن ابن عباس : كل ما فيه "لو" فهو مما لا يكون أبداً.
ثم بين سبحانه أنه مصرون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال: 75- "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" أي من قحط وجدب "للجوا في طغيانهم" : أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم "يعمهون" يترددون ويتذبذبون ويخبطون، وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه. وقيل المعنى لوردناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم.
75. " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر "، قحط وجدوبة " للجوا "، تمادوا، " في طغيانهم يعمهون "، ولم ينزعوا عنه.
75ـ " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " يعني القحط . " للجوا " لثبتوا واللجاج التمادي في الشيء . " في طغيانهم " إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحق وعداوة الرسول والمؤمنين . " يعمهون " عن الهدى ، روي "أنهم قحطوا حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك رحمة للعالمين قال بلى فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت ".
75. Though We had mercy on them and relieved them of the harm afflicting them, they still would wander blindly on in their contumacy.
75 - If We had mercy on them and removed the distress which is on them, they would obstinately persist in their transgression, wandering in distraction to and fro.