(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار) أي بمال كثير (يؤده إليك) لأمانته كعبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية ذهباً فأداها إليه (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) لخيانته (إلا ما دمت عليه قائما) لا تفارقه فمتى فارقته أنكره ككعب بن الأشرف استودعه قرشي ديناراً فجحده (ذلك) أي ترك الأداء (بأنهم قالوا) بسبب قولهم (ليس علينا في الأميين) أي العرب (سبيل) أي إثم لاستحلالهم ظلم من خالف دينهم ونسبوه إليه تعالى ، قال تعالى (ويقولون على الله الكذب) في نسبة ذلك إليه (وهم يعلمون)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أن من أهل الكتاب -وهم اليهود من بني إسرائيل- أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجر في يمينه، المستحل.
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدي أمانته والخائنها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرهم -على ما بينه في كتابه بهذه الآيات- تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترار بهم، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين.
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤده إليك ولا يخنك فيه ، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه فلا يؤده إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
والباء في قوله: "بدينار" و على يتعاقبان في هذا الموضوع، كما يقال: مررت به، ومررت عليه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "إلا ما دمت عليه قائما".
فقال بعضهم: إلا ما دمت له متقاضياً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إلا ما دمت عليه قائما"، إلا ما طلبته واتبعته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "إلا ما دمت عليه قائما"، قال: تقتضيه إياه.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إلا ما دمت عليه قائما"، قال: مواظباً.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما دمت قائماً على رأسه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله: "إلا ما دمت عليه قائما"، يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائماً على رأسه ، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافرك- الذي يؤدي، والذي يجحد.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائماً بالمطالبة والاقتضاء. من قولهم : قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي، أي عمل في تخليصه، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحل، ولكن قد يكون -مع استحلاله الذهاب بما عليه لرب الحق- إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. فذلك الاقتضاء، هو قيام رب المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن من استحل الخيانة من اليهود، وجحود حقوق العربي التي هي له عليه، فلم يؤد ما ائتمنه العربي عليه إلا ما دام له متقاضياً مطالباً، من أجل أنه يقول: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم، لأنهم على غير الحق ، وأنهم مشركون.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ليس علينا في الأميين سبيل"، قال : ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون من ليس من أهل الكتاب.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال : يقال له : ما بالك لا تؤدي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نزلت: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود: "ليس علينا في الأميين سبيل"، يعنون أخذ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤداة، ولم يزد على ذلك.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أميون. فذلك قوله: "ليس علينا في الأميين سبيل"، إلى آخر الآية.
وقال آخرون في ذلك، ما:
حدثنا به القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج: "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله عز وجل: "ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهل الكتاب فنصيب من ثمارهم؟ قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب: "ليس علينا في الأميين سبيل"!!
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن أبي إسحق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو-أو: [العذق]، الشك من الحسن- من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال : هذا كما قال أهل الكتاب: "ليس علينا في الأميين سبيل"! إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم: ليس علينا في أموال الأميين من العرب حرج أن نختانهم إياه، يقولون -بقيلهم إن الله أحل لنا ذلك ، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم- الكذب على الله عامدين الإثم بقيل الكذب على الله، إنه أحل ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل: "وهم يعلمون"، كما:
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : فيقول على الله الكذب وهو يعلم، يعني الذي يقول منهم -إذا قيل له: مالك لا تؤدي أمانتك؟-: ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا!
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج: "ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني : ادعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم: "ليس علينا في الأميين سبيل".
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تامنه بقنطار يؤده إليك مثل عبدلله بن سلام . ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وهو فنحاص بن عزوراء اليهودي ، أودعه رجل دينارا فخانه . وقيل : كعب بن الأشرف وأصحابه . وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي من إن تيمنه على لغة من قرأ نستعين وهي لغة بكر وتميم . وفي حرف عبدالله مالك لا تيمنا على يوسف والباقون بالألف . وقرأ نافع والكسائي يؤد هي بياء في الإدراج . قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء ، فقرءوا يؤده إليك . قال النحاس : بإسكان الهاء لا يجوز إلا في اشعر عند بعض النحويين ، وبعضهم لا يجيز البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به ، أنه توهم أن الجزم يقع على الهاء ، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا . والصحيح عنه أنهكان يكسر الهاء ، وهي قراءة يزيد بن القعقاع : وقال الفراء : مذهب بعض العب بجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، ويقولون : ضربته ضربا شديدا ، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع ، كما قال الشاعر :
لما رأى ألا دعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
وقيل : إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة . وقرأ أبو المنذر سلام والزهري يؤده بضم الهاء بغير واو . وقرأ قتادة وحميد ومجاهد يؤدهو بواو في الإدراج ، اختير لها الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج . قال سيبويه : الواو في المذكر بمنزلة الألف في المؤنث ويبدل منها ياء لأن الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء ، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها .
الثانية : أخبر تعلى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين ، والمؤمنون لا يميزون ذلك ، فينبغي اجتناب جميعهم . وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك ، لأن الخيانة فيهم أكثر ، فخرج الكلام على الغالب . والله أعلم . وقد مضى تفسير القنطار . وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعة اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى ، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر . وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب . وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه . وذكر تعالى قسمين : من يؤدي ومن لا يؤدي إلا بالملازمة عليه ، وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما . فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر ، فخرج الكلام على الغالب . وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الحمن السلمي وغيرهما دمت بكسر الدال وهما لغتان ، والكسر لغة أزد السراة ، من دمت تدام مثل خفت تخاف . وحكى الأخفش دمت تدوم ، شاذا .
الثالثة : استدل أبو حنيفة عل مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى : إلا مادمت عليه قائما . وأباه سائر العلماء ، وقد تقدم في البقرة . وقد استدل بعض البغدادتين من علمائنا على حبس الممديان بقوله تعالى : ومنهم من إن تأمنه بدينار يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . أي يوجهك فيهابك ويستحي منك ، فإن الحياء في العينين ، ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي اله عنه : ولا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين . وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها . ويقال فائما اي ملازما له ، فإن أنظرته أنكرك . وقيل : أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام . والدينار أصله دنار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف طلبا لكثرة استعماله . يدله عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دنينير .
الرابعة : الأمانة عظيمة القدر في الدين ، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط ، كما في صيحيح مسلم . فلا يمكن من الجوزاء إلا من حفظهما . وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة ، قال :
" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه " وقد تقدم بكماله أول البقرة , وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بنا سنان عن أبي الزهارية عن أبي شجرة كثير من مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن ا لله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه ا لحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام " وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " والله أعلم .
الخامسة : ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك ، لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا . فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ، ألا ترى قولهم : " ليس علينا في الأميين سبيل " فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه ، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين .
السادسة : قوله تعالى : " ذلك بأنهم قالوا " يعنى اليهود " ليس علينا في الأميين سبيل " قيل : إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون : ليس علينا في الأميين سبيل أي حرج في ظلمهم لمخالفتهم إيانا . وادعوا أن ذلك في كتابهم ، فأكذبهم الله عز وجل ورد عليه فقال : بلى أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب . قال أبو إسحاق الزجاج : وتم الكلام ثم قال " من أوفى بعهده واتقى " . ويقال إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود : ليس لكم علينا شيء ، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم . وادعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى : " بلى " ردا لقولهم " ليس علينا في الأميين سبيل " . أي ليس كما تقولون ، ثم استأنف فقال : " من أوفى بعهده واتقى " الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله .
السابعة : قال رجل لابن عباس : إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول : ليس علينا في ذلك بأس فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب " ليس علينا في الأميين سبيل " إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم ، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس ، فذكره .
الثامنة : قوله تعالى : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته ، لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب . وفيه رد على الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع . قال ابن العربي : ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله . وفي الخبر : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ما شيء كان الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " .
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم, فإن منهم "من إن تأمنه بقنطار" أي من المال "يؤده إليك" أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليه "ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً" أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك, وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليه. وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة, وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني, حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم, حدثنا مالك بن دينار, قال: إنما سمي الدينار لأنه دين ونار وقيل: معناه من أخذه بحقه فهو دينه, ومن أخذه بغير حقه فله النار. ومناسب أن يذكر ههنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه, ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم," أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل, سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار, فقال ائتني بالشهداء أشهدهم, فقال: كفى بالله شهيداً. قال: ائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت, فدفعها إليه إلى أجل مسمى, فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركباً يركبها ليقدم عليه في الأجل الذي أجله, فلم يجد مركباً, فأخذ خشبة فنقرها, فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها, ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني استسلفت فلاناً ألف دينار فسألني شهيداً, فقلت: كفى بالله شهيداً, وسألني كفيلاً, فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بذلك, وأني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر, وإني استودعتكها, فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه, ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده, فخرج الرجل الذي كان أسلفه لينظر لعل مركباً يجيئه بماله, فإذا بالخشبة التي فيها المال, فأخذها لأهله حطباً, فلما كسرها وجد المال والصحيفة, ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه, فأتاه بألف دينار, وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لاتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه, قال: هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا, قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة, فانصرف بألف دينار راشداً ", هكذا رواه البخاري في موضع معلقاً بصيغة الجزم, وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولاً, عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به, ورواه البزار في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد, عن أبي عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, بنحوه, ثم قال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد, كذا قال وهو خطأ لما تقدم. وقوله "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب, فإن الله قد أحلها لنا, قال الله تعالى: "ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون" أي وقد اختلقوا هذه المقالة, وائتفكوا بهذه الضلالة, فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني, عن صعصعة بن يزيد, أن رجلاً سأل ابن عباس, فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة, قال ابن عباس: فتقولون ماذا ؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس, قال هذا كما قال أهل الكتاب: "ليس علينا في الأميين سبيل", إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم, وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا يعقوب, حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير, قال: لما قال أهل الكتاب: "ليس علينا في الأميين سبيل" قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة, فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" ثم قال تعالى: "بلى من أوفى بعهده واتقى" أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك, واتقى محارم الله, واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم "فإن الله يحب المتقين".
هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، والجار والمجرور في قوله 75- "ومن أهل الكتاب" في محل رفع على الابتداء على ما مر في قوله "ومن الناس من يقول" وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله "تأمنه" هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي تيمنه بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم، ومثله قراءة من قرأ نستعين بكسر النون. وقرأ نافع والكسائي "يؤده" بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وحمزو وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء. قال النحاس: إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه شيء من هذا والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون: ضربنه ضرباً شديداً كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وأنشد:
لما رأى أن لا دعة ولا شبع مال إلى أرضاه حقف فاضطجع اهـ
وقرأ أبو المنذر سلام والزهري يؤده بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد يؤدهو بواو في الإدراج، ومعنى الآية: أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤده أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أميناً في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى وقوله "إلا ما دمت عليه قائماً" استثناء مفرغ، أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لرده، والإشارة بقوله: ذلك إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله "لا يؤده". والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب: أي ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم، فرد الله سبحانه عليهم بقوله " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى " أي بلى عليهم سبيل لكذبهم واستحلالهم أموال العرب.
75-قوله تعالى: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك" الآية ، نزلت في اليهود اخبر الله تعالى أن فيهم أمانة وخيانة والقنطار عبارة عن المال الكثير ، والدينار عبارة عن المال القليل ، يقول : منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت ، ومنهم من لا يؤديها وغن قلت ، قال مقاتل( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) هم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه " ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " يعني: كفار اليهود ، ككعب بن الأشرف وأصحابه ، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عزوجل " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك" يعني: عبد الله بن سلام ، أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه ، "و منهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك" يعني: فنحاص بن عازوراء ، إستودعه رجل من قريش ديناراً فخانه ، قوله " يؤده إليك" قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة (يؤده) و (لا يؤده) و (نصله) و (نؤته) و(نوله) ساكنة الهاء، قرأ أبو جعفر وقالون ويعقوب بالاختلاس كسراً ، والباقون بالإشباع كسراً، فمن سكن الهاء قال لأنها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهبة، ومن إختلس فاكتفى بالكسرة عن الياء، ومن أشبع فعلى الأصل،لأن الأصل في الهاء الإشباع،"إلا ما دمت عليه قائما" ، قال ابن عباسملحاً ،يريد يقوم عليه يطالبه بالالحاح ، وقال الضحاك : مواظباً أي تواظب عليه بالاقتضاء ، وقيل : أراد أودعته ثم استرجعته وأنت قائم على راسه ولم تفارقه رده إليك ، فإن فارقته وأخرته أنكره ولم يؤده " ذلك" أي : ذلك الاستحلال والخيانة ،"بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" أي: في مال العربي إثم وحرج كقوله تعالى:" ما على المحسنين من سبيل" وذلك ان اليهود قالوا :أموال العرب حلال لنا، لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة / لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم.
وقال الكلبي : قالت اليهود إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد العرب منها فهو لنا ، وإنما ظلمونا وغصبونا فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.
وقال الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالاً من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حق ، ولا عندنا قضاء أنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم ، فكذبهم الله عز وجل ، وقال عز من قائل:" ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " ثم قال رداً عليهم:
75"ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك" كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه "ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك" كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر ديناراً فجحده. وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذا الغالب عليهم الخيانة. وقرأ حمزة وأبوبكر وأبو عمرو "يؤده إليك" و "لا يؤده إليك" بإسكان الهاء وقالون باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة. " إلا ما دمت عليه قائما " إلا مدة دوامك قائماً على رأسه مبالغاً في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة. "ذلك" إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله "لا يؤده". "بأنهم قالوا" بسبب قولهم. "ليس علينا في الأميين سبيل" أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب -ولم يكونوا على ديننا- عتاب وذم. "ويقولون على الله الكذب" بادعائهم ذلك "وهم يعلمون" أنهم كاذبون، وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا: لم يجعل لهم في التوراة حرمة. وقيل عامل اليهود رجلاً من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها "كذب الأعداء ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر".
75. Among the People of the Scripture there is he who, if thou trust him with a weight of treasure, will return it to thee. And among them there is he who, if thou trust him with a piece of gold, will not return it to thee unless thou keep standing over him. That is because they say: We have no duty to the Gentiles. They speak a lie concerning Allah knowingly.
75 - Among the people of the book are some who, if entrusted with a hoard of gold, will (readily) pay it back; others, who, if entrusted with a single silver coin, will not repay it unless thou constantly stoodest demanding, because, they say, there is no call on us (to keep faith) with these ignorant (pagans). but they tell a lie against God, and (well) they know it.