75 - (وكذلك) كما أريناه إضلال أبيه وقومه (نري إبراهيم ملكوت) ملك (السماوات والأرض) ليستدل به على وحدانيتنا (وليكون من الموقنين) بها وجملة وكذلك وما بعدها اعتراض وعطف على قال
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وكذلك"، وكما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلافه ما كانوا عليه من الضلال ، نريه ملكوت السماوات والأرض ، يعني ملكه.
وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت من الجبر ، وكما قيل: رهبوت خير من رحموت، بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعاً: له ملكوت اليمن والعراق، بمعنى : له ملك ذلك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض". فقال بعضهم : معنى ذلك : نريه خلق السماوات والأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، أي خلق السماوات والأرض.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، أي : خلق السماوات والأرض ، "وليكون من الموقنين".
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، يعني بـ "ملكوت السماوات والأرض"، خلق السماوات والأرض.
وقال آخرون :معنى الملكوت الملك، بنحو التأويل الذي تأولناه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة، وسأله رجل عن قوله: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: هو الملك ، غير أنه بكلام النبط : ملكوتا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي زائدة، عن عكرمة قال : هي بالنبطية : ملكوتا.
وقال آخرون : معنى ذلك: آيات السماوات والأرض .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد: "نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: آيات السماوات والأرض.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال : آيات.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبع حتى العرش، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين"، قال : أقيم على صخرة وفتحت له السماوات ، فنظر إلى ملك انثه فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض ، فذلك قوله "وآتيناه أجره في الدنيا" [العنكبوت : 27]، يقول : آتيناه مكانه في الجنة، ويقال : أجره ، الثناء الحسن .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض"، قال : فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهن، حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهن .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن سالم ، عن سعيد بن جبير: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال : كشف له عن أديم السماوات والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة، والصخرة، على حوت ، والحوت على خاتم رب العزة لا إله إلا الله .
حدثنا هناد وابن وكيع قالا، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، رأى عبداً على فاحشة، فدعا عليه ، فهلك . ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه ، فهلك . ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه ، فهلك فقال : أنزلوا عبدي لا يهلك عبادي
حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال : لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات ، أشرف فرأى عبداً يزني ، فدعا عليه ، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبداً يزني ، فدعا عليه ، فهلك . ثم رفع فأشرف ، فرأى عبداً يزني ، فدعا عليه ، فنودي : على رسلك يا إبراهيم ، فإنك عبد مستجاب لك ، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب ، عن عوف ، عن أسامة : أن إبراهيم خليل الرحمن حدث نفسه أنه أرحم الخلق ، لان الله رفعه حتى أشرف على أهل الأرض، فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمر عليهم ! فقال له ربه : أنا أرحم بعبادي منك،اهبط ،فلعلهم أن يتوبوا إلي ويراجعوا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال : الشمس والقمر والنجوم .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن مجاهد : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال : الشمس والقمر.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، يعني به : الشمس والقمر والنجوم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال : خبىء إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة، فجعل له رزقه في أصابعه ، فإذا مص إصبعاً من أصابعه وجد فيها رزقاً . فلما خرج ، أراه الله ملكوت السماوات والأرض . فكان ملكوت السماوات : الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار.
حدثنا بشر بن معاذ، قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فر به من جبار مترف ، فجعل في سرب ، وجعل رزقه في أطرافه، فجعل لا يمص إصبعاً من أصابعه إلا وجد فيها رزقاً. فلما خرج من ذلك السرب، أراه الله ملكوت السماوات، فأراه شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً، وأراه ملكوت الأرض ، فأراه جبالاً وبحوراً وأنهاراً وشجراً ومن كل الدواب وخلقاً عظيماً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض"، أنه أراه ملك السموات والأرض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلى له بواطن الأمور وظواهرها، لما ذكرنا قبل من معنى الملكوت ، في كلام العرب، فيما مضى قبل.
وأما قوله: "وليكون من الموقنين"، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السموات والأرض ، ليكون ممن يقر بتوحيد الله، ويعلم حقيقة ما هداه له وبصره إياه، من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى. وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك ، ما:
حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله: "وليكون من الموقنين"، أنه جلى له الأمر سره وعلانيته، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله: إنك لا تستطيع هذا فرده الله كما كان قبل ذلك.
فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً لا خبراً
حدثني العباس بن الوليد قال ، أخبرني أبى قال ، حدثنا ابن جابر قال ، وحدثنا الأوزاعي أيضاً، قال : حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، فقال له قائل: ما رأيتك أسفر وجها منك الغداة قال: ومالي، وقد تبدى لي ربي في أحسن صورة، فقال : فعم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت أنت أعلم يا رب فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات والأرض". ثم تلا هذه الآية: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين".
قوله تعالى: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض" أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت. وقرأ أبو السمال العدوي ملكوت بإسكان اللام. ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها، ولعلها لغة. ونري بمعنى أرينا، فهو بمعنى المضي. فقيل: أراد به ما في السموات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم، فكان يدعو على من يراه يعصى فيهلكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصبور. روى معناه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين. وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السموات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن، ورأى مكانه في الجنة، فذلك قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا" [العنكبوت: 27]، عن السدي. وقال الضحاك: أراه من ملكوت السماء ما قصه من الكواكب، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار، ونحو ذلك مما استدل به. وقال بنحوه ابن عباس. وقال: جعل حين ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد، فأمر بعزل الرجال عن النساء. وقيل: أمر بقتل كل مولود ذكر. وكان آزر من المقربين عند الملك نمروذ فأرسله يوماً في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم. وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ، فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سرباً في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكانت تجده يمص أصابعه، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين. فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين، فقال لأمه: من ربي؟ فقالت أنا. فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك. قال: ومن ربه؟ قالت نمروذ. قال: ومن ربه؟ فلطمته، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه. والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب مما يقتدى به. وقال بعضهم: كان مولده بحران ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوح. وقد مضى ذكره في البقرة. وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة.
قوله تعالى: "وليكون من الموقنين" أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك، أي الملكوت.
قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر, وإنما كان اسمه تارح, رواه ابن أبي حاتم وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل, حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب, حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" يعني بآزر الصنم, وأبو إبراهيم اسمه تارح, وأمه اسمها مثاني, وامرأته اسمها سارة, وأم إسماعيل اسمها هاجر, وهي سرية إبراهيم, وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح, وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم, قلت: كأنه غلب عليه آزر, لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم, وقال ابن جرير وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم, ومعناه معوج, ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان, سمعت أبي يقرأ "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" قال: بلغني أنها أعوج, وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام, ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر, ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح, ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان, كما لكثير من الناس, أو يكون أحدهما لقباً, وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم, واختلف القراء في أداء قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" فحكى ابن جرير عن الحسن البصري, وأبي يزيد المدني, أنهما كانا يقرآن "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة" معناه يا آزر أتتخذ أصناماً آلهة, وقرأ الجمهور بالفتح, إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف أيضاً, كأحمر وأسود, فأما من زعم أنه منصوب, لكونه معمولاً لقوله "أتتخذ أصناماً" تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناماً آلهة, فإنه قول بعيد في اللغة, فإن ما بعد حرف الاستفهام, لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام, كذا قرره ابن جرير وغيره, وهو مشهور في قواعد العربية, والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام, وزجره عنها ونهاه فلم ينته, كما قال "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ؟" أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله "إني أراك وقومك" أي السالكين مسلكك "في ضلال مبين" أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون, بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال تعالى: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " فكان إبراهيم عليه السلام, يستغفر لأبيه مدة حياته, فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك, رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه, كما قال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " وثبت في الصحيح أن إبراهيم, يلقى أباه آزر يوم القيامة, فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون, وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم, انظر ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار, قوله "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما, على وحدانية الله عز وجل, في ملكه وخلقه, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, كقوله "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" وقال " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب " وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم, قالوا: واللفظ لمجاهد: فرجت له السموات, فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش, وفرجت له الأرضون السبع, فنظر إلى ما فيهن, وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي, ويدعو عليهم, فقال الله له إني أرحم بعبادي منك, لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين, عن معاذ وعلي, ولكن لا يصح إسنادهما, والله أعلم, وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي, عن ابن عباس, في قوله "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين" فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق, فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله إنك لا تستطيع هذا فرده كما كان قبل ذلك, فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عياناً, ويحتمل أن يكون عن بصيرته, حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه, وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة, والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي, وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام "أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا أدري يا رب, فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك" وذكر الحديث. قوله "وليكون من الموقنين" قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض, ليكون من الموقنين, كقوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين " وقيل بل هي على بابها, أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً, وقوله تعالى: "فلما جن عليه الليل" أي تغشاه وستره "رأى كوكباً" أي نجماً "قال هذا ربي فلما أفل" أي غاب, قال محمد بن إسحاق بن يسار: الأفول الذهاب, وقال ابن جرير: يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولاً وأفلا, إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها دياج ولا بالافلات الزوائل
ويقال: أين أفلت عنا ؟ بمعنى أين غبت عنا, قال " لا أحب الأفلين " قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول, "فلما رأى القمر بازغاً" أي طالعاً "قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي" أي هذا المنير الطالع ربي "هذا أكبر" أي جرماً من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة "فلما أفلت" أي غابت "قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" أي أخلصت ديني, وأفردت عبادتي "للذي فطر السموات والأرض" أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق "حنيفاً" أي في حال كوني حنيفاً, أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال "وما أنا من المشركين" وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير: من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, ما يقتضي أنه مقام نظر, واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله "لئن لم يهدني ربي" الاية, وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه, حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان, لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه, فأمر بقتل الغلمان عامئذ, فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم, وتركته هناك, وذكر أشياء من خوارق العادات, كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف, والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام, كان في هذا المقام مناظراً لقومه, مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام, فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية, التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم, الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه, وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته, ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر, وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل, وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة, وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل, وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس, ثم القمر ثم الزهرة, فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية, فإنها مسخرة مقدرة بسير معين, لا تزيغ عنه يميناً ولا شمالاً, ولا تملك لنفسها تصرفاً, بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة, لما له في ذلك من الحكم العظيمة, وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه, ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال, ومثل هذه لا تصلح للإلهية, ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم, ثم انتقل إلى الشمس كذلك, فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار, وتحقق ذلك بالدليل القاطع, "قال يا قوم إني بريء مما تشركون" أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن, فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها, الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء, وربه ومليكه وإلهه, كما قال تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون" الايات, وقال تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى : "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة" وفي صحيح مسلم, عن عياض بن حمار, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله إني خلقت عبادي حنفاء" وقال الله في كتابه العزيز " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " وقال تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى" ومعناه على أحد القولين كقوله " فطرة الله التي فطر الناس عليها " كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة, فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً, ولم يك من المشركين, ناظراً في هذا المقام, بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة, بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب, وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى .
قوله: 75- "وكذلك نري إبراهيم" أي ومثل تلك الإراءة نري إبراهيم، والجملة معترضة، و "ملكوت السموات والأرض" ملكهما، وزيدت التاء والواو للمبالغة في صفة، ومثله الرغبوت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرهبة. قيل: أراد بملكوت السموات والأرض ما فيهما من الخلق، وقيل: كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين، وقيل: رأى من ملكوت السموات والأرض ما قصه الله في هذه الآية، وقيل: المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية: أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها، ومعنى "نري" أريناه، حكاية حال ماضية. قوله: "وليكون من الموقنين" متعلق بمقدر: أي أريناه ذلك "ليكون من الموقنين" وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فأراد أن ينبههم على الخطأ، وقيل: إن ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها. وسبب جعله في السرب أن النمروذ رأى رؤيا أن ملكه يذهب على يد مولود فأمر بقتل كل مولود، والله أعلم.
75- " وكذلك نري إبراهيم "، أي: كما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه " ملكوت السموات والأرض "، والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة، كالجبروت والرحموت والرهبوت، قال ابن عباس: يعني خلق السموات والأرض، وقال مجاهد : و سعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض، وذلك أنه أقيم على صخر وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة، فذلك قوله تعالى: " وآتيناه أجره في الدنيا " يعني: أريناه مكانه في الجنة.
وروي عن سلمان رضي الله عنه، ورفعه بعضهم [عن علي رضي الله عنه]لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك، ثم أبصر آخر فأراد أن يدعوا عليه فقال له الرب عز وجل: ( يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة، فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني، وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت عنه، وإن شئت عاقبته) وفي رواية: (وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه ).
وقال قتادة : ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
" وليكون من الموقنين "،عطف على المعنى،ومعناه: نريه ملكوت السموات والأرض، ليستدل به وليكون من الموقنين.
75 " وكذلك نري إبراهيم " ومثل هذا التبصير نبصره ، وهو حكاية حال ماضية . وقرئ : ترى بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية . " ملكوت السموات والأرض " ربوبيتها وملكها ، وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة . " وليكون من الموقنين " أي ليستدل وليكون ، أو وفعلنا ذلك ليكون .
75. Thus did We show Abraham the kingdom of the heavens and the earth that he mighty be of those possessing certainty:
75 - So also did we show Abraham the power and the laws of the heavens and the earth, that he might (with understanding) have certitude.