82 - (فليضحكوا قليلاً) في الدنيا (وليبكوا) في الآخرة (كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) خبر عن حالهم بصيغة الأمر
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلاً في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله، ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلاً في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا، " جزاء"، يقول: ثواباً منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوهم، وقعودهم في منازلهم خلاف رسول الله، " بما كانوا يكسبون "، يقول: بما كانوا يجترحون من الذنوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسمعيل، عن أبي رزين: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا "، قال يقول الله تبارك وتعالى: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: " فليضحكوا قليلا "، قال: في الدنيا، " وليبكوا كثيرا "، قال في الآخرة.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبدالرحمن ويحيى قالا، حدثنا سفيان، عن إسمعيل بن سميع، عن أبي رزين في قوله: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا "، قال في الآخرة.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا "، قال: ليضحكوا في الدنيا قليلاً، وليبكوا في النار كثيراً. وقال في هذه الآية: " وإذا لا تمتعون إلا قليلا " [الأحزاب: 16]، قال: إلى آجالهم، أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن : " فليضحكوا قليلا "، قال: ليضحكوا في الدنيا، " وليبكوا كثيرا "، في الآخرة في نار جهنم، " جزاء بما كانوا يكسبون ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " فليضحكوا قليلا "، أي: في الدنيا، " وليبكوا كثيرا "، أي: في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذين نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تقنط عبادي " .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن حثيم، " فليضحكوا قليلا "، قال: في الدنيا، " وليبكوا كثيرا "، قال: في الآخرة.
... قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين: " فليضحكوا قليلا "، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا "، قال: هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً. يقول الله تبارك وتعالى: " فليضحكوا قليلا "، في الدنيا، " وليبكوا كثيرا "، في النار.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " فليضحكوا "، في الدنيا، " قليلا "، " وليبكوا "، يوم القيامة، " كثيرا ". وقال: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون "، حتى بلغ: " هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون "، [المطففين: 29 - 36].
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "فليضحكوا قليلا" أمر، معناه معنى التهديد وليس أمراً بالضحك. والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن: "فليضحكوا قليلا": في الدنيا "وليبكوا كثيرا" في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً. "جزاء" مفعول من أجله، أي للجزاء.
الثانية- من الناس من كان لا يضحك اهتماماً بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبداً صالحاً. قال صلى الله عليه وسلم:
"والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد" خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر:
"أن كثرته تميت القلب". وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود، قال عليه السلام:
"ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت". خرجه ابن المبارك من حديث أنس، وابن ماجة أيضاً.
يقول تعالى ذاماً للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وفرحوا بقعودهم بعد خروجه "وكرهوا أن يجاهدوا" معه "بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا" أي بعضهم لبعض "لا تنفروا في الحر" وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار, فلهذا قالوا "لا تنفروا في الحر" قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: "قل" لهم "نار جهنم" التي تصيرون إليها بمخالفتكم "أشد حراً" مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار, كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ فقال: "فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً" أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم, وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" وهذا أيضاً إسناده صحيح, وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن عباس الدوري, وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت, ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت, ثم أوقد عليها ألف سنة, حتى اسودت, فهي سوداء كالليل المظلم" ثم قال الترمذي: لا أعلم أحداً رفعه غير يحيى, كذا قال, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه, عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به.
وروى أيضاً ابن مردويه, من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناراً وقودها الناس والحجارة" قال: "أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت, وألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى اسودت, فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها, وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج, وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه "لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب" وروى الحافظ أبو يعلى, عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه" غريب, وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل, لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه وإنه أهونهم عذاباً" أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش, وقال مسلم أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن أبي كثير, حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه", وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن ابن عجلان, سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أدنى أهل النار عذاباً رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه" وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم, والأحاديث والاثار النبوية في هذا كثيرة, وقال الله تعالى في كتابه العزيز " كلا إنها لظى * نزاعة للشوى " وقال تعالى: " يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " وقال تعالى "إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب" وقال تعالى في هذه الاية الكريمة "قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون" أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الاخر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الاخر:
عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار
وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار
ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: "فليضحكوا قليلاً" الاية, قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا, فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز وجل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً, وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش, حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد, حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون, فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت" ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به, وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباس, حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه, قال: إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زماناً ثم بكوا القيح زماناً, قال: فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال: فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الاباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشاً وكنا طول الموقف عطاشاً ونحن اليوم عطاش, فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله, فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم, ثم يجيبهم "إنكم ماكثون" فييأسون من كل خير".
قوله: 82- "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" هذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية: أي ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً، أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً "جزاء بما كانوا يكسبون" أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، وانتصاب جزاء على المصدرية: أي يجزون جزاء.
82-"فليضحكوا قليلاً"، في الدنيا، "وليبكوا كثيراً"،في الآخرة. تقديره: فليضحكوا قليلا فسيبكون كثيرا، "جزاءً بما كانوا يكسبون".
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنبأنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الحسين الشرقي، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا".
أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي توبة، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارث، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عمران بن زيد الثعلبي، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يا أيها الناس ابكو، فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع، فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت".
82."فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون"إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب،ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم .
82. Then let them laugh a little: they will weep much, as the award of what they used to earn.
82 - Let them laugh a little: much will they weep: a recompense for the (evil) that they do.