85 - (ويسألونك) أي اليهود (عن الروح) الذي يحيا به البدن (قل) لهم (الروح من أمر ربي) أي علمه لا تعلمونه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) بالنسبة إلى علمه تعالى
قوله تعالى يسألونك عن الروح الآية أخرج البخاري عن ابن مسعود قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متوكىء على عسيب فمر بنفر من قريش فقال بعضهم لو سألتموه فقالوا حدثنا عن الروح فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ثم قال الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود علمونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فأنزل الله ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي قال ابن كثير يجمع بين الحديثين بتعدد النزول وكذا الحافظ ابن حجر أو يحمل سكوته حين سؤال اليهود على توقع مزيد بيان في ذلك والا فما في الصحيح أصح قلت ويرجح ما في الصحيح بأن راوية حاضر القصة بخلاف ابن عباس
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي ؟ قل لهم : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا. وذكر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوماً من اليهود .
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله ، قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه ، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم : اسألوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، فقام متوكئا على عسيبه ، فقمت خلفه ، فظننت أنه يوحى، إليه ، فقال : " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" . فقال بعضهم لبعض : ألم نقل لكم لا تسألوه .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة، إذ مررنا على يهود، فقال بعضهم : سلوه عن الروح ، فقالوا : ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون ، فقاموا إليه ، فسألوه ، فقام فعرفت أنه يوحى إليه ، فقمت مكاني ، ثم قرأ " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " فقالوا : ألم ننهكم أن تسألوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، نزل اللة تعالى " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فقالوا : أتزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة،وهي الحكمة ، " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". قال : فنزلت " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " : قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار، فهوكثير طيب ، وهوفي علم الله قليل .
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل ، قال : ثنا الأشجعي أبو عاصم الحمصي ، قال : ثنا إسحاق بن عيسى أبويعقوب ، قال : ثنا القاسم بن معن ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله ، قال : إني لمع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، إذ أتاه يهودي ، قال : يا أبا القاسم : ما الروح ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عز وجل " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " ويسألونك عن الروح " لقيت اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فتغشوه وسألوه وقالوا : إن كان نبياً علم ، فسيعلم ذلك ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فأنزل الله في كتابه ذلك كله " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " يعني اليهود ،
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " ويسألونك عن الروح" قال : يهود تسأل عنه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " ويسألونك عن الروح " قال : يهود تساله .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " ويسألونك عن الروح ". وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا ما الروح ، وكيف تعذب الروح التي فى الجسد؟ وإنما الروح من الله عز وجل ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئاً، فاتاه جبرئيل عليه السلام ، فقال له : " قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، قالوا له : من جاءك بهذا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : جاءني به جبريل من عند الله ، فقالوا : والله ما قاله لك إلا عدو لنا، فأنزل الله تبارك اسمه " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فمررنا بأناس من اليهود ، فقالوا : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فاسكت ، فرأيت أنه يوحى إليه ، قال : فتنحيت عنه إلى سباطة، فنزلت عليه " ويسألونك عن الروح " . ، فقالت اليهود: هكذا نجده عندنا .
واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذكر في هذا الموضمع ما هي ؟ فقال بعضهم : هي جبرئيل عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " ويسألونك عن الروح " قال : هو جبرئيل ، قال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه . وقال آخرون : هي ملك من الملائكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " ويسألونك عن الروح " قال : الروح : ملك .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قاك : ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب ، أنه قال في قوله " ويسألونك عن الروح " قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عز وجل بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة . وقد بينا معنى الروح في غير هذا الموضع من كتابنا، بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله " من أمر ربي " فإنه يعني : أنه من الأمر الذي يعلمه الله عز وجل دونكم ، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.
وأما قوله " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني بقوله " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " فقال بعضهم : عني بذلك : الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم ، ولكن لما ضم غير المخاطب إلى المخاطب ، خرج الكلام على المخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب ، أخرجوا الكلام خطاباً للجمع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال نزلت بمكة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أفعنيتنا أم قومك ؟ قال كلا قد عنيت ، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي فى علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم . فأنزل الله " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " ألقمان : إلى قوله " إن الله سميع بصير" .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله عز وجل " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " قال : يا محمد والناس أجمعون .
وقال آخرون : بل عني بذلك : الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " يعني :اليهود.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : خرج الكلام خطاباً لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ،لأن علم كل أحد سوى الله ، وإن كثر في علم الله قليل . لانما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلاً من كثيرمما يعلم الله .
روى البخاري و مسلم و الترمذي " عن عبد الله قال : بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح فقال : ما رابكم إليه ؟ وقال بعضهم : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه ، فقالوا : سلوه ، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) " ، لفظ البخاري ، وفي مسلم : فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : ( وما أوتوا ) وقد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه ، أي الروح هو ؟ فقيل : هو جبريل ، قاله قتادة : قال : وكان ابن عباس يكتمه ، وقيل هو عيسى ، وقيل القرآن ، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى ، وقال علي بن أبي طالب : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، في كل وجه سبعون ألف لسان ، في كل لسان سبعون ألف لغة ، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات ، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة ، ذكره الطبري ، قال ابن عطية وما أظن القول يصح عن علي رضي الله عنه .
قلت : أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ( ويسألونك عن الروح ) يقول : الروح ملك ، وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران ( بكسر الهاء ) يزيد بن سمرة عمن حدثه عن علي بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الروح ) قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ...الحديث بلفظه ومعناه ، وروى عطاء عن ابن عباس قال : الروح ملك له أحد عشر جناح وألف وجه ، يسبح الله إلى يوم القيامة ، ذكره النحاس ، وعنه : جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ، ذكره الغزنوي ، وقال الخطابي : وقال بعضهم : هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح ومسلكه في بدن الإنسان ، وكيف أمتزاجه بالجسم واتصال الحياة به ، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وقال أبو صالح : الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم ن لهم أيد وأرجل ، والصحيح الإبهام لقوله : ( قل الروح من أمر ربي ) أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى ، مبهماً له وتاركاً تفصيله ، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها ، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى ، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ، دلالة على أنه من إدراك خالقه أعجز .
قوله تعالى : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " اختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ( وما أوتوا ) ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة : المراد كله ، وهو الصحيح ، وعليه قراءة الجمهور ( وما أوتيتم ) وقد قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم :كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ؟ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث : كلا ، يعني المراد بـ( ما أوتيتم ) جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أم قومك ، فقال : ( كلاً ) وفي هذا المعنى نزلت : " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " [ لقمان : 27 ] ، حكى ذلك الطبري رحمه الله ! وقد قيل : إن السائلين عن الروح هم قريش ، قالت لهم اليهود ، سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي ، فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي ، وقال في الروح : ( قل الروح من أمر ربي ) أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ، ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة , عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة, وهو متوكىء على عسيب, فمر بقوم من اليهود, فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, وقال بعضهم: لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح, فقالوا: يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئاً على العسيب, قال: فظننت أنه يوحى إليه, فقال: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه " . وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الاية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متوكىء على عسيب, إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, فقال: ما رابكم إليه, وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه, فسألوه عن الروح, فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يرد عليهم شيئاً, فعلمت أنه يوحى إليه, فقمت مقامي, فلما نزل الوحي قال: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي"" الاية, وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الاية مدنية, وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة, مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية, كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالاية المتقدم إنزالها عليه, وهي هذه الاية "ويسألونك عن الروح" ومما يدل على نزول هذه الاية بمكة ما قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة , عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل, فقالوا: سلوه عن الروح, فسألوه, فنزلت "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" قالوا: أوتينا علماً كثيراً, أوتينا التوراة, ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً, قال: وأنزل الله "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر" الاية.
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى , عن داود عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح, فأنزل الله "ويسألونك عن الروح" الاية, فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً, وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" قال: فنزلت " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر " الاية, قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار, فهو كثير طيب, وهو في علم الله قليل.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا: " يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" أفعنيتنا أم عنيت قومك, فقال : كلاً قد عنيت فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم" وأنزل الله " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ".
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "ويسألونك عن الروح" الاية, وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد, وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء, فلم يحر إليهم شيئاً, فأتاه جبريل فقال له: "قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالوا: من جاءك بهذا ؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله, فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا " , فأنزل الله "قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه" وقيل: المراد بالروح ههنا جبريل, وقال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه, وقيل المراد به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: "ويسألونك عن الروح" يقول: الروح ملك. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري , حدثنا وهب بن روق بن هبيرة , حدثنا بشر بن بكر , حدثنا الأوزاعي , حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل, تسبيحه سبحانك حيث كنت" وهذا حديث غريب بل منكر. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله. حدثني علي , حدثني عبد الله , حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله: "ويسألونك عن الروح" قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه, لكل وجه منها سبعون ألف لسان, لكل لسان منها سبعون ألف لغة, يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها, يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة, وهذا أثر غريب عجيب, والله أعلم.
وقال السهيلي : روي عن علي أنه قال: هو ملك له مائة ألف رأس, لكل رأس مائة ألف وجه, في كل وجه مائة ألف فم, في كل فم مائة ألف لسان, يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي : وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم, وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم, فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم. وقوله: "قل الروح من أمر ربي" أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم, ولهذا قال: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل, فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى, والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل, وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استاثر به تعالى ولم يطلعكم عليه, كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى, وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة, أي شرب منه بمنقاره, فقال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر, أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا قال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" وقال السهيلي : قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا, لأنهم سألوا على وجه التعنت, وقيل: أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله: "قل الروح من أمر ربي" أي من شرعه, أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك, لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة, وإنما ينال من جهة الشرع, وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر, والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها, وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء, سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر, وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم, فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء, كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً, فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطاراً أو خمراً, ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز, وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو, وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه, فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها, والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن, فهي هي من وجه لا من كل وجه, وهذا معنى حسن, والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها, وصنفوا في ذلك كتباً, ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح.
ثم لما أنجز الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال: 85- "ويسألونك عن الروح" قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال: "قل الروح من أمر ربي" أي إنكم لا تعلمونه، وقيل الروح المسؤول عنه جبريل، وقيل عيسى، وقيل القرآن، وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل خلق كخلق بني آدم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: "قل الروح من أمر ربي" "من" بيانية، والأمر الشأن والإضافة للاختصاص، أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل معنى "من أمر ربي" من وحيه وكلامه لا من كلام البشر، وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" أي أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام.
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: "دلوك الشمس" غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس: دلكت الشمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها غروبها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال: "لدلوك الشمس" لزوال الشمس، وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلوك الشمس زوالها" وضعف السيوطي إسناده، وأخرجه مالك في الموطأ وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها زوالها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه في قوله: "لدلوك الشمس" قال: إذا فاء الفيء. وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر". وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا "أقم الصلاة لدلوك الشمس". وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه، ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال "دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنبري عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله: "إلى غسق الليل" قال: إلى العشاء الآخرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: "غسق الليل" اجتماع الليل وظلمته. وأخرج ابن جرير عنه قال: "غسق الليل" بدو الليل. وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: دلوك الشمس إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل غروب الشمس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقرآن الفجر" قال: صلاة الصبح. وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي لله في قوله: "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً". قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً" وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قرآن الفجر كان مشهوداً" قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "نافلة لك" يعني خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقيام الليل وكتب عليه. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ثلاث هن علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك، وقيام الليل". وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله: "نافلة لك" قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة، وفي لفظ: إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" وسئل عنه، قال: هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها، يقولون يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً. وأخرج عنه نحوه مرفوعاً، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها. وأخرج الطبراني في قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته، فذلك المقام المحمود. وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، قال: يجلسني معه على السرير" وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله: "وقل رب أدخلني" الآية قال: أخرجه الله من مكة مخرج صدق، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال: وعلم نبي الله انه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم. وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"، "جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"" وفي الباب أحاديث وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ونأى بجانبه" قال: تباعد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كان يؤوساً" قال: قنوطاً، وفي قوله: "كل يعمل على شاكلته" قال: على ناحيته. وأخرج هناد وابن المنذر عن الحسن قال: على شاكلته. على نيته. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب فظننت أنه يوحى إليه، فقال: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"". وأخرج أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" قالوا أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً فأنزل الله "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" وفي الباب أحاديث وآثار.
85 - قوله تعالى : " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن حفص ، حدثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - حدثنا الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة ، وهو يتوكأ على عسيب معه ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه ، فقال بعضهم لنسألنه ، فقام رجل منهم ، فقال : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت ، فقلت : إنه يوحى إليه ، فقمت ، فلما انجلى عنه الوحي ، قال : " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " قال الأعمش : هكذا في قراءتنا .
وروي عن ابن عباس أنه قال : إن قريشاً قد اجتمعوا وقالوا : إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب ، وقد ادعى ما ادعى ، فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم ، فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء ، فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها ، فليس بنبي ، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي ، فسلوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنه كان لهم حديث عجيب ، وعن رجل بلغ شرق الأرض و غربها ما خبره ، وعن الروح ؟ فسألوه ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله ، فلبث الوحي - قال مجاهد : اثني عشرة ليلة ، وقيل : خمسة عشر يوماً وقال عكرمة : أربعين يوماً - وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء ، حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة، ثم نزل جبريل بقوله " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله " ، ونزلت قصة الفتية " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " ، ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب " ويسألونك عن ذي القرنين " ، ونزل في الروح " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " .
واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه ، فروي عن ابن عباس : أنه جبريل ،وهو قول الحسن و قتادة .
وروي عن علي أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، يسبح الله تعالى بكلها .
وقال مجاهد : خلق على صور بني آدم ، لهم أيد وأرجل ورؤوس ، وليسوا بملائكة ، ولا ناس ، يأكلون الطعام .
وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ، لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضيين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ، صورة خلقه على صورة خلق الملائكة وصورة وجهه علىصورة الآدميين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل اليوم عند الحجب السبعين ، وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره . وقيل : الروح هو القرآن .
وقيل : المراد منه عيسى عليه السلام ،فإنه روح الله وكلمته ، ومعناه : أنه ليس كما يقول اليهود ولا كما يقوله النصارى .
وقال قوم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان ، وهو الأصح .
وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ، ألا ترى أن الحيوان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم ؟.
وقال قوم : هو نفس الحيوان ، بدليل أنه يموت باحتباس النفس .
وقال قوم : هو عرض .
وقال قوم : هو جسم لطيف .
وقال بعضهم : الروح معنىً اجتمع فيه النور والطيب والعلو والبقاء ، ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات ، فإذا خرج ذهب الكل ؟ .
وأولى الأقاويل : أن يوكل علمه إلى الله عز وجل ، وهو قول أهل السنة . قال عبد الله بن بريدة إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً .
وقوله عز وجل : " قل الروح من أمر ربي " قيل : من علم ربي.
" وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " أي : في جنب علم الله . قيل : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : خطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ، ولكن لم يخبر به أحداً لأن ترك إخباره به كان علماً لنبوته .
والأول أصح ، لأن الله عز وجل استأثر بعلمه .
85." ويسألونك عن الروح "الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره ."قل الروح من أمر ربي"من الإبداعيان الكائنة بـ"كن"من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده، أو وجد بأمره وحدث بتكونيه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه. وقيل مما استأثر الله بعلمه . لما روي : أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة .وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن ، ومن أمر ربي معناه من وحيه ، "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" تستفيدونه بتوسط حواسكم ، فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية . إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ، ولذلك قيل من فقد حساً فقد فقد علماً . ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئاً من أحواله المعروفة لذاته ، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به ،فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب:وما رب العالمين بذكر بعض صفاته. روي : أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا: أنحن مختصون بهذا الخطاب؟فقال:بل نحن وأنتم، فقالوا :ما أعجب شأنك ساعة تقول"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" .وساعة تقول هذا فنزلت" ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " وما قالوه لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده ، وهو والإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيراً.
85. They will ask thee concerning the Spirit. Say: The Spirit is by command of my Lord, and of knowledge ye have been vouchsafed but little.
85 - They ask thee concerning the spirit (of inspiration). say: the spirit (cometh) by command of my Lord: of knowledge it is only a little that is communicated to you, (O men)