(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) بأن آثروها عليها (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) يمنعون منه
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضًا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء هم الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان، الذي كان يكون لهم به في الآخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضًا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنًا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، كما:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة"، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء، لاشترائهم بالذي كان في الدنيا دنياهم بآخرتهم.
وأما قوله:"ولا هم ينصرون" فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما.
قوله تعالى : "ثم أنتم هؤلاء" أنتم في موضع رفع بالابتداء ، ولا يعبر ، لأنه مضمر . وضمت التاء من أنتم لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحداً مذكراً ، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة ، فلما ثنيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة : "هؤلاء" قال القتبي : التقدير يا هؤلاء . قال النحاس : هذا خطأ على قول سيبويه ، ولا يجوز هذا أقبل . وقال الزجاج : هؤلاء بمعنى الذين . و "تقتلون" داخل في الصلة ، أي : ثم أنتم الذين تقتلون . وقيل : هؤلاء رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدم ، و تقتلون حال من أولاء . وقيل : هؤلاء نصب بإضمار أعني . وقرأ الزهري تقتلون بضم التاء مشدداً ، وكذلك "فلم تقتلون أنبياء الله" . وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الأسلاف . نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود ، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة ، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع ، والخزرج حلفاء بني قريظة . والنضير والأوس والخزرج إخوان ، وقريظة والنضير أيضاً إخوان ، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم ، فعيرهم الله بذلك فقال : "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" .
قوله تعالى : "تظاهرون"معنى تظاهرون تتعاونون ، مشتق من الظهر ، لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر ، ومنه قول الشاعر :
تظاهرتم أستاه بيت تجمعت على واحد لا زلتم قرن واحد
والإثم : الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم . والعدوان : الإفراط في الظلم والتجاوز فيه . وقرأ أهل المدينة وأهل مكة تظاهرون بالتشديد ، يدغمون التاء في الظاء لقربهم منها ، الأصل تتظاهرون . وقرأ الكوفيون تظاهرون مخففاً ، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها ، وكذا "وإن تظاهرا عليه" . وقرأ قتادة تظهرون عليهم وكله راجع إلى معنى التعاون ، ومنه :"وكان الكافر على ربه ظهيرا" . وقوله : "والملائكة بعد ذلك ظهير" فأعلمه .
قوله تعالى : "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم" فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإن يأتوكم أسارى" شرط ، وجوابه تفاودهم و أسارى نصب على الحال . قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول : ما صار في أيديهم فهم الأسارى ، وما جاء مستأسراً فهم الأسرى . ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو ، إنما هو كما تقول : سكارى وسكرى . وقرأ الجماعة أسارى ما عدا حمزة فإنه قرأ اسرى على فعلى ، جمع أسير بمعنى مأسور ، والباب ـ في تكسيره إذا كان ذلك ـ فعلى ، كما تقول : قتيل وقتلى ، وجريح وجرحى . قال أبو حاتم : ولا يجوز أسارى . وقال الزجاج : يقال أسارى ما يقال سكارى ، وفعالى هو الأصل ، وفعالى داخلة عليها . وحكي عن محمد بن يزيد قال : يقال أسير واسراء ، كظريف وظرفاء . قال ابن فارس : يقال في جمع أسير واسارى ، وقرىء بهما . وقيل : اسارى ( بفتح الهمزة ) وليست بالعالية .
الثانية : الأسير مشتق من الإسار ، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيراً ، لأنه يشد وثاقه ، والعرب تقول : قد أسر قتبه ، أي شده ، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يؤسر ، وقال الأعشى :
وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا
أي أنا في بيته ، يريد بذلك بلوغه النهاية فيه . فأما الأسر في قوله عز وجل : "وشددنا أسرهم" فهو الخلق . واسرة الرجل رهطه ، لأنه يتقوى بهم .
الثالثة : قوله تعالى : "تفادوهم" كذا قرأ نافع وحمزة و الكسائي . والباقون تفدوهم من الفداء . والفداء : طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم . قال الجوهري : الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر ، وإذا فتح مقصور ، يقال : قم ـ فدى لك أبي . ومن العرب من يكسر فداء بالتنوين إذا جاوز لام الجر خاصة ، فيقول : فداء لك ، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء . وأنشد الأصمعي للنابغة :
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد
ويقال : فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه . وفداه بنفسه ، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك . وتفادوا ، أي فدى بعضهم بعضا . والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد . وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً ، بمعنى فديت ، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : فاديت نفسي وفاديت عقيلا ً. وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر ، تقول : فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي ، قال الشاعر :
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا
الرابعة : قوله تعالى "وهو محرم عليكم إخراجهم" هو مبتدأ وهو كناية عن الإخراج ، و محرم خبره ، و إخراجهم بدل من هو وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة ، الجملة التي بعده خبره ، أي والأمر محرم عليكم إخراجهم . فـ ـإخراجهم مبتدأ ثان . و محرم خبره ، والجملة خبر عن هو ، وفي محرم ضمير ما لم يسم فاعله يهود يسد مسد خبر محرم ، والجملة خبر عن هو . وزعم الفراء أن هو عماد ، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له ، لأن العماد لا يكون في أول الكلام . ويقرأ وهو بسكون الهاء لثقل الضمة ، كما قال الشاعر :
فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره
وكذلك إن جئت باللام وثم ، وقد تقدم . قال علماؤنا : كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود :ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أساراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك توبيجاً يتلى فقال :"أفتؤمنون ببعض الكتاب" وهو التوراة "وتكفرون ببعض"
قلت : ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض ليت بالمسلمين ، بل بالكافرين حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العضيم .
قال علماؤنا : فداء الآسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد . قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى ، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم ، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع . ويجب فك الأسارى من بيت المال ، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين وسيأتي .
الخامسة : قوله تعالى : "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" ابتداء وخبر . والخزي الهوان . قال الجوهري وخزي ـ بالكسر ـ يخزى خزياً إذا ذل وهان . قال ابن السكيت : وقع في بلية . وأخزاه الله ، وخزي ايضاً يخزى خزاية إذا استحيا ، فهو خزيان . وقوم خزايا وامرأة خزيا .
السادسة : قوله تعالى : "ويوم القيامة يردون" يردون بالياء قراءة العامة ، وقرأ الحسن تردون بالتاء على الخطاب . "إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون" تقدم القول فيه ، وكذلك : "أولئك الذين اشتروا" الآية ، فلا معنى للإعادة . يوم منصوب بـ يردون .
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الاوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير: حلفاء الخزرج، وبنو قريظة: حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الاخر من الفريق الاخر ، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ولهذا قال تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم" وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى: "ثم أقررتم وأنتم تشهدون" أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال محمد بن إسحاق بن يسار ، حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير ، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الاية في قيس بن الخطيم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير ، قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله، يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته، فأعتقه "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم" قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال عبد الله: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الاية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب" جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم " وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " أي استحبوها على الاخرة واختاروها "فلا يخفف عنهم العذاب" أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة "ولا هم ينصرون" أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.
وكذلك تفسير 86- "أولئك الذين اشتروا" وقوله: "فلا يخفف" إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" قال يؤنبهم: أي ميثاقكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى البيهقي في الشعب عن علي في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم توليتم" قال: أي تركتم ذلك كله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: معناه أعرضتتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم وهم الذين اخترتهم لطاعتي. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا تسفكون دماءكم" لا يقتل بعضكم بعضاً "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار "ثم أقررتم" بهذا الميثاق "وأنتم تشهدون" وأنتم شهود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم أقررتم" أن هذا حق من ميثاقي عليكم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم" أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " قال: تخرجونهم من ديارهم معهم "تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان" فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم "وهو محرم عليكم" في كتابكم لإخراجهم "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
86 - " أولئك الذين اشتروا " استبدلوا " الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف" يهون" عنهم العذاب ولا هم ينصرون" يمنعون من عذاب الله عز وجل .
86-" أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " آثروا الحياة الدنيا على الآخرة . " فلا يخفف عنهم العذاب " بنقض الجزية في الدنيا ، والتعذيب في الآخرة . " ولا هم ينصرون " بدفعهما عنهم .
86. Such are those who buy the life of the world at the price of the Hereafter: Their punishment will not be lightened, neither will they have support.
86 - These are the people who buy the life of this world at the price of the hereafter: their penalty shall not be lightened nor shall they be helped.