88 - (ذلك) الدين الذي هدوا إليه (هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) فرضاً (لحبط عنهم ما كانوا يعملون)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "ذلك هدى الله"، هذا الهدى الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل ، فوفقتهم به لإصابة الدين الحق الذي نالوا بإصابتهم إياه رضى ربهم ، وشرف الدنيا، وكرامة الآخرة، هو "هدى الله"، يقول : هو توفيق الله ولطفه الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه ، حتى ينيب إلى طاعة الله ، وإخلاص العمل له ، وإقراره بالتوحيد، ورفض الأوثان والأصنام ، "ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون"، يقول : ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم ، بربهم تعالى ذكره ، فعبدوا معه غيره ، "لحبط عنهم"، يقول : لبطل فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعملون ، لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملاً.
قوله تعالى: "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا" أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في البقرة.
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن, وأيس هو وامرأته سارة من الولد, فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط, فبشروهما بإسحاق فتعجبت المرأة من ذلك, وقالت "يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" فبشروهما مع وجوده بنبوته, وبأن له نسلاً وعقباً, كما قال تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة, وقال " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما, فتقر أعينكما به, كما قرت بوالده, فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب, ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه, وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية, وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام, حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم, وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض, فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته, بأولاد صالحين من صلبه على دينه, لتقر بهم عينه, كما قال تعالى: "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً" وقال ههنا "ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا" وقوله "ونوحاً هدينا من قبل" أي من قبله هديناه كما هديناه, ووهبنا له ذرية صالحة, وكل منهما له خصوصية عظيمة, أما نوح عليه السلام, فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به, وهم الذين صحبوه في السفينة, جعل الله ذريته هم الباقين, فالناس كلهم من ذريته, وأما الخليل إبراهيم عليه السلام, فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً, إلا من ذريته, كما قال تعالى: "وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب" الاية, وقال تعالى, "ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب" وقال تعالى: "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً" وقوله في هذه الاية الكريمة "ومن ذريته" أي وهدينا من ذريته "داود وسليمان" الاية, وعود الضمير إلى نوح, لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه, وهو اختيار ابن جرير. وعوده إلى إبراهيم, لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن, لكن يشكل عليه لوط, فإنه ليس من ذرية إبراهيم, بل هو ابن أخيه ماران بن آزر, اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليباً, وكما قال في قوله "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون" فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً, وكما قال في قوله " فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس " فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود, وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم, فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً, وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار, والملائكة من النور, وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح, على القول الاخر, دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل, لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام, بأمه عليها السلام, فإنه لا أب له. قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا علي بن عابس, عن عبد الله بن عطاء المكي, عن أبي حرب بن أبي الأسود, قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر, فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم, تجده في كتاب الله ـ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام "ومن ذريته داود وسليمان" حتى بلغ "ويحيى وعيسى" قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب ؟ قال صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته, أو وقف على ذريته, أو وهبهم, دخل أولاد البنات فيهم, فأما إذا أعطى الرجل بنيه, دخل أولاد البنات فيهم, فأما إذا أعطى الرجل بنيه, أو وقف عليهم, فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه, واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أيضاً, لما ثبت في صحيح البخاري, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه ابناً, فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز, وقوله "ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم" ذكر أصولهم وفروعهم, وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم, ولهذا قال "واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم" ثم قال تعالى: "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم, "ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون" تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته, كقوله تعالى: "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك" الاية, وهذا شرط, والشرط لا يقتضي جواز الوقوع, كقوله "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" وكقوله "لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين" وكقوله "لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار". وقوله تعالى: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة" أي أنعمنا عليه- بذلك, رحمة للعباد بهم ولطفاً منا بالخليقة, "فإن يكفر بها" أي بالنبوة, ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على هذه الأشياء الثلاثة, الكتاب والحكم والنبوة, وقوله "هؤلاء" يعني أهل مكة, قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد, "فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين" أي إن يكفر بهذه النعم, من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض, من عرب وعجم, ومليين وكتابيين, فقد وكلنا بها قوماً آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة, "ليسوا بها بكافرين" أي لا يجحدون منها شيئاً, ولا يردون منها حرفاً واحداً, بل يؤمنون بجميعها, محكمها ومتشابهها, جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه, ثم قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم "أولئك" يعني الأنبياء المذكورين, مع من أضيف إليهم من الاباء والذرية والإخوان, وهم الأشباه, "الذين هدى الله" أي هم أهل الهدى لا غيرهم "فبهداهم اقتده", أي اقتد واتبع, وإذا كان هذا أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم, فأمته تبع له, فيما يشرعه ويأمرهم به, قال البخاري عند هذه الاية: حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني سليمان الأحول أن مجاهداً أخبره, أنه سأل ابن عباس أفي (ص) سجدة ؟ فقال نعم, ثم تلا "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى قوله "فبهداهم اقتده" ثم قال هو منهم, زاد يزيد بن هارون, ومحمد بن عبيد, وسهل بن يوسف, عن العوام عن مجاهد, قلت لابن عباس فقال نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم. وقوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجراً" أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة, ولا أريد منكم شيئاً, "إن هو إلا ذكرى للعالمين" أي يتذكرون به, فيرشدوا من العمى إلى الهدى, ومن الغي إلى الرشاد, ومن الكفر إلى الإيمان.
والإشارة بقوله: 88- "ذلك هدى الله" إلى الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة "يهدي به" الله "من يشاء من عباده" وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق "ولو أشركوا" أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله "لحبط عنهم" من حسناتهم "ما كانوا يعملون" والحبوط البطلان. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
88- " ذلك هدى الله "، دين الله، " يهدي به "، يرشد به، " من يشاء من عباده، ولو أشركوا "، أي: هؤلاء الذين سميناهم، " لحبط "، لبطل وذهب، " عنهم ما كانوا يعملون ".
88 " ذلك هدى الله " إشارة إلى ما دانوا به " يهدي به من يشاء من عباده " دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية . " ولو أشركوا " أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم " لحبط عنهم ما كانوا يعملون " لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها .
88. Such is the guidance of Allah wherewith He guideth whom He will of His bondmen. But if they had set up (for worship ) aught beside Him, (all) that they did would have been vain.
88 - This is the guidance of God: he giveth that guidance to whom he pleaseth, of his worshippers. if they were to join other gods with him, all that they did would be vain for them.